«زمن الاخ القائد» مقطع من رواية ليبية

منوعات

كان حمدان، بعدما جاء إليه أخوه المصرفي شخصياً، وحذره نقلاً عن أخيه «الضابط الحر»، أنه عرضة للاعتقال في أي لحظة ومن معه، اتصل بكل الجماعة كيلا يأتوا تلك الليلة. لكنه ما كان ليتصل بكما إذ لا وسيلة لإبلاغكما، إلا إذا كنتما حاضرين معه. طلب منكما أن تذهبا لتقليل الخسائر. فرفضتما أن تتخليا عنه. سكبت ما توافر من خمر في المرحاض. فيما أخذ العيساوي قطعة الحشيش ليرمي بها في خرابة مجاورة بعدما تملص من رقابة المخبر الذي لاحظه مرابطاً في آخر الزقاق. في الوقت الذي كنت منشغلاً بتفكيك طنجرة الضغط المستعملة لتقطير الكحول وتنظيفها كي تعود إلى طبيعة وظيفتها المعتادة…

وفي اللحظة التي دهموا الباب الحديدي، بطرقاتهم الفاشية رأيت حمدان مستغرقاً في لم أوراق روايته المبعثر، في أنحاء الغرفة وممرات الحوش.

ذهب العيساوي لفتح الباب وبقيت مع حمدان تحاول أن تثنيه عن استغراقه البارانوي في لملمة فوضى أوراقه المبعثرة كذاكرته تماماً. وما إن فتح العيساوي الباب الحديدي حتى تدفقوا في دوي عسكري، مقتحمين المكان. أخذوه مباشرة إلى الشاحنة العسكرية. ثم ألحقوكما به بسرعة فائقة. ونقلوا إلى شاحنة أخرى ما عثروا عليه من كتب وأوراق وصور. لكنهم لم يعثروا على هدية الصالحين الملغومة، بعدما كادوا يقلبون البيت حجراً حجراً. هل كانوا في حاجة إلى ذلك؟

انطلقت بكم الشاحنة، مقيدي الأيدي للخلف، ومعصوبي العيون. كان الصمت مسيطراً طوال الرحلة التي استغرقت أكثر من ساعتين حسب تقديرك كمعصوب عينين لا يعرف إلى أين يُقاد ويجهل مصيره. فكرت في سلمى أكثر من كل الآخرين. لم تكن تقوى على تخيلها في قبضتهم، عرضة لعنفهم وإهاناتهم البذيئة. وربما قد يجرؤون على اغتصابها. فرغوكم في ساحة معتقل ما. رفعوا العَصائب عن أعينكم، وفكوا القيود عن أيديكم. طلب حمدان، حالما كشفوا عن وجهه، الاتصال بأخيه العقيد عبد الجليل الكبير. لكمه الثوري المسؤول عن عملية الاعتقال، فسقط أرضاً.

ـ هنا لا نعرف لا العقيد عبد الجليل، ولا حتى الأخ العقيد نفسه.

نظرتَ إلى حمدان الواقع أرضاً بجوارك، خائفاً أن تجرؤ على فعل شيء لأجله. كأن تساعده على النهوض. فإذ من حسن الحظ ينهض متفقداً وضع فكيه بيده، قائلاً في وجه الذي لكمه بهدوء صارم:

ـ ليش ما تستعمل عضلة لسانك في الرد على ما قلته بعضلة لساني، بدل استعمال عضلات يدك.

ـ أنتَ فيش تخرف!

وقهقه عالياً:

ـ اليد عندنا تسبق اللسان.

ولكمه من جديد بكل ما بيده من قوة عضلية فسقط حمدان مغمياً عليه.

نظرت إليه من جديد. لكنه لم ينهض. وجدت نفسك والعيساوي تجثوان بحذائه، تربتان على وجهه في محاولة لرده إلى وعيه. دلق أحد الحراس سطل ماء على وجه، وسط صياح الضابط المسؤول:

ـ خذوهم.

ساعدتماه على النهوض ذراعاً بذراع، فيما كان يستعيد وعيه بفعل صفعة الماء. رُميتم في زنزانة وحدكم. كنت مرعوباً مما هو قادم. حتى إنك توقعت أنهم سيأخذونكم إلى غابة ما، ويطلقون على رؤوسكم الرصاص وأنتم جاثون، وأيديكم مقيدة خلفكم كما يحدث في أفلام المافيا. أو قد تنتهون قرابين حفلة شنق في السابع من أبريل القادم، ولم يعد يبعد عن موعده سوى ثلاثة أسابيع وبضعة أيام.

في ليلة اعتقالكم الثانية أخرجكم الحراس من الزنزانة، وقادوكم إلى ساحة المعتقل، لتجدوا أنفسكم بمعية غيركم من المعتقلين، محاطين بجمهرة من السجانين، المزودين بسياط من لدائن خراطيم المياه.

صاح رئيس العرفاء، الضخم السمين، ذو الشارب الكثيف من النوع الذي يجثم صقران على طرفيه حسب الأغنية الذكورية الشائعة:

ـ دوروا حول الساحة واللي يتوقف منكم مصيره أسود.

جريتم وجريتم حول الساحة، تحت ضربات السياط اللدائنية. تركض مع الراكضين الدائرين حول مضمار ساحة السجن الترابية بحجم ملعب كرة قدم. تتلقون من كل الأنحاء ضربات سياط الحراس الخرطومية، المحاطين بالراكضين حول محيط المكان، فيما رئيس عرفاء الخفر يهتف كالمجذوب وسط دائرة الركض، مطالباً بترديد ما يقوله:

ـ لا إله إلا الله! القائد حبيب الله!

كانت السياط اللدائنية تترصد كل من قد لا تنبس شفتاه بالدعاء. كنت تركض وراء حمدان وأمامه العيساوي. تردد وراء رئيس العرفاء في همس خافت كيلا تُسوَط: لا إله إلا الله! القائد حبيب الله! لا إله إلا الله! القائد حبيب الله! لا إله إلا الله!…

كان الأمر من السفاهة حتى إن حمدان علا صياحه بالهتاف إلى حد السعال، متلفتاً إليك بين فينة وأخرى، أو مُربِتاً على كتف العيساوي أمامه:

ـ ارفع صوتك أخي المجلود:

لا إله إلا الله! القائد حبيب الله! لا إله إلا الله! القائد حبيب الله!…

رأيت الشاعر الوطني الشهير، المعتقل منذ سنوات، يُجلب إلى وسط دائرة الراكضين. يأمره رئيس العرفاء بالركض مع الراكضين. فيظل ثابتاً في مكانه، رافضاً الامتثال كعادته، كلما أخرجوه في شعيرة الطواف الثوري. كان ماركسياً ـ حلاجياً. يشير رئيس العرفاء إلى مساعديه (عريف ونائب عريف)، فيقومان بما اعتادا القيام به. ينهالان عليه بضربات سوطيهما بكل ضراوة. وهو كما اعتاد تحمله إلى درجة الخوف من امتلاكه قدرات سحرية، ظل واقفاً في مكانه، يرتل كما اعتاد في مشهد كهذا: «وجعلنا من بين أيديهم سداً ومن خلفهم سداً فأغشيناهم، فهم لا يبصرون». فينضم إليهم رئيس العرفاء بنفسه، ويشاركهم في ضرب الشاعر بكل ضراوة. وأنتم تدورون حول الدائرة. والشاعر الماركسي ـ الحلاجي واقف متماسك في مكانه، والسياط اللدائنية تنهال عليه بكل ضراوة. تتذكر والعيساوي أنكما وقفتما تشاهدان تظاهرة طلابية في شارع جمال عبد الناصر خائفين من الانضمام إليها وقد كُتب على إحدى لافتاتها أحد أبياته بالبنط الضخم:

من ذا ينهض في وجه الصبح المزيف.

وها أنت تراه في مضمار ساحة السجن، يرفض الامتثال. واقفاً في مكانه عنيداً مثل قصيدته. يُضرب بضراوة، حتى يسقط أرضاً. لكنه سرعان ما يعود ويتماسك جاثياً على ركبتيه مرتلاً الآية القرآنية التي لا يكف عن تلاوتها بصوت جهوري شعري، تحت ضربات السياط المتوالية: وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون. وجعلنا من بين أيديهم سداً، ومن خلفهم سداً، فأغشيناهم فهم لا يبصرون…. فإذ بالعريفين القصيرين المفرطَيْ السمنة، ومعهما رئيس العرفاء يتوقفون كالعادة عن ضربه معاً في وقت واحد تقريباً، مستسلمين للحظات لوقع التلاوة على مسامعهم في ذهول غبي، وقد تملكتهم الخشية على مصيرهم من سحر الآيات، إلى أن يصرخ فيهما رئيس العرفاء (كالعادة) وقد تنبه إلى طبيعة وظيفته:

ـ واصلوا … اضربوا الكلب. ما تخلوهش يسحركم!

فيعودان وينهالان على جسده الجاثي حتى ينهار مغمياً عليه. فيأتي سجانان ويجرانه إلى زنزانته.

هكذا تُتركون لأسابيع نزلاء زنزانة واحدة. تقطِعون الوقت الذي يقطِعكم: بالصمت الكثير والكلام القليل والنوم القَلِق. تُخرجون لوقت قصير، في ساعات الصباح وقُبيل حلول الظلام، إلى دورة المياه. يقول حمدان: «وجودنا في زنزانة واحدة وبدون تحقيق معناه موضوعنا بسيط.. وأكيد العقيد عبد الكبير على علم بالموضوع. لكن ماعنداش مانع من تأديبنا. والصحيح تأديبي. وأنتم محسوبين في الخلطة. قلت لكم خلوني بروحي».

قال العيساوي:

ـ لو كنت أنت بروحك المقصود ليش جاؤوا بحمولة شاحنة للقبض على عشرات؟

قال حمدان:

ـ لأنهم عارفين أن دائماً معي حمولة شاحنة من أمثالكم.

قلتَ:

ـ أنا مش مطمئن.. ما فيش أي منطق يحكم الأمور.. ممكن في أي وقت يقدموننا في حفل شنق ثوري عام بصفتنا عملاء للمخابرات الأجنبية.

قال حمدان:

ـ تعرفون أني عبد البارانويا. لكن عمري ما شعرت أني تحررت منها إلا هنا. ففكوني من تحليلاتكم. خلونا نتقبل ما يواجهنا، ونركز على الجلبة خارج السور…

وفي ليلة ليلاء. أخذوكم واحداً بعد الآخر إلى غرفة التعذيب. تُضرب بالصفعات واللكمات على أيدي جلاوزة غلاظ. لا ترى منهم شيئاً إلا لكماتهم في وجهك. ولا تحس منهم شيئاً إلا ركلاتهم في نواحي جسدك، وهم يطرحونك أرضاً داخل دائرة الضوء. ثم يجعلون قدميك داخل حبل الفلقة. تحاول ألا تصرخ. لكن ما تلبث أن تطلق أنينكَ في فضاء الألم المفتوح، إلى أن تتورم القدمان وينز الدم من بطنيهما. فيتوقف صراخك إذ يتوقف الإحساس بالألم، بعدما تصبح قدماك كأنهما في جسد آخر.

ثم تفقد وعيَك، لتصحو في الزنزانة بقدمين متورمتين، وقد تفجر الألم الذي كان مُخدّراً من شدة الألم. يمزق العيساوي وحمدان قطعاً من الأغطية المهترئة، يبللانها بماء الشرب من سطل الزنزانة، ويلفان بها قدميك. ثم يأتي الدور على حمدان بعد العيساوي. ولم تكن تملك إلا أن تتصوره وهو ينصاع بهدوء سيد العناد في غير قتال. يتلقى اللكمات والرفسات، هازئاً من جلاديه. يضع مساعدا الجلاد قدميه في رباط الفلقة، ويشدان طرفيها لإحكام حبلها حول القدمين، كي لا تفلتا. ثم يرفعانها إلى مستوى مناسب لتلقي الضربات على أخمصيهما.

فصل من رواية للكاتب الليبي فرج العشة تصدر قريباً عن دار الآداب – بيروت في عنوان «زمن الأخ القائد».

المصدر: جريدة الحياة