تركي الحمد
تركي الحمد
كاتب سعودي

من نزع البهجة من ديارنا؟

آراء

في كل إجازة، قصيرة كانت أو طويلة، ترى السعوديين على اختلاف أطيافهم، يقفون بالطوابير الطويلة أمام مكاتب الطيران في المطارات الدولية السعودية، كل يريد قضاء إجازته خارج البلاد، وليس مهما أين يكون هذا الخارج غالبا، بل المهم أن تكون هذه الإجازة خارج الحدود. وعلى الحدود البرية للمملكة، ترى في هذه الإجازات السعوديين وقد تكدسوا أرتالا من السيارات والبشر أمام نقاط الحدود، كل يُريد أن يستغل أيام الإجازة في هذا البلد أو ذاك من البلدان المجاورة، رغم أنها لا تختلف عن بلادهم كثيرا، والكل رغم المعاناة، ترتسم البسمات على وجوههم وتعلو ضحكاتهم، ويشع نور الرضا من عيونهم، فيما تختفي تلك البسمات، وتعبس الوجوه، وتتلاشى الضحكات، ويخفت نور العيون حين التكدس والتزاحم ساعة العودة، والسؤال هنا هو: لماذا كان ذلك؟. البعض من “السائحين ” السعوديين، وأتحفظ على كلمة سائح هذه كثيرا هنا، يبحث عن متعة ممنوعة عليه في بلاده علنا، رغم توفرها سرا، ويتوفر بعضها في البلاد المقصودة، أما الغالبية من السعوديين فهم من المتسكعين في الأسواق، ورواد السينمات وزبائن المطاعم، أي متعة لا يشوبها شائبة حرام أو عيب، ويتوفر أغلبها في بلادهم، ولكنهم يبحثون عنها خارج الحدود لشعور نفسي بالتحرر والانطلاق غالب الأحيان. “هجرة” السعوديين إلى الخارج بحثا عن متعة مباحة في بلادهم أو غير مباحة، تحول إلى ظاهرة لا يمكن إلا أن تُلاحظ في كل إجازة، وما أكثر الإجازات في السعودية، وكأن السفر تحول إلى نوع من “الاستفتاء العام” حول نوعية الحياة الاجتماعية السعودية، بل حول النظام الاجتماعي السعودي، وأظن أن نتيجة الاستفتاء لا تحتاج إلى خبير يحللها، ويُعلن نتيجتها النهائية، فكل تلك الطوابير، وكل ذلك التكدس، وتلك المليارات من الريالات والدولارات واليوروات والاسترلينيات المنفقة خارج الحدود، والمستنزفة من دخل قومي هو اليوم قادر على تحمل النزيف ولكن من يدري غدًا، هي إجابة واضحة لكل من بحث عن إجابة.

فصحيح أن الكل يُسافر في هذا العالم سعياً وراء هذه الغاية أو تلك، ولكن “هجرة الإجازات” السعودية تحولت إلى ظاهرة تجاوزت النسب المعقولة في أيّة دولة من دول العالم، حتى تلك الدول الثرية، حتى لا يُقال إن الثروة فقط هي السبب، فالبعض من السعوديين يستدين لقضاء إجازة عابرة في الخارج، في الوقت الذي يكون فيه محروماً من أساسيات الحياة في بلده، ولكنه يُضحّي بهذه الأساسيات من أجل متعة عابرة لأيام معدودة. صحيح أن أهل الخليج عامة لهم رحلة صيف جماعية يبحثون فيها بشكل رئيس عن نسمة هواء باردة في معظمهم، ولكن أهل السعودية من المهاجرة في الصيف والشتاء، وبينهما الربيع والخريف، وبحثاً عن أمور لا علاقة لها في الغالب بنسمة الهواء، ولا بأمور غير متوفرة في بلادهم، وما الهجرة المؤقتة إلى دبي المجاورة في كل الفصول، إلا مجرد مؤشر على أن المسألة لا علاقة لها بنسمة الهواء، أو مجرد التبضع من مجمع تجاري لا تخلو بلادهم من مثله، أو شاطئ بحر لديهم منه الكثير، والسؤال هنا هو لماذا؟

والحقيقة أن أشياء كثيرة، وممارسات كثيرة تحولت إلى ظواهر في الحياة الاجتماعية السعودية، وما هجرة الإجازات هذه إلا الأقل شأناً، ولكن ذلك لا يمنع من القول إنها كلها ظواهر تنبئ بخطر داهم على الكيان الاجتماعي، بعضها أقل خطورة من البعض الآخر، ولكنها في النهاية أمور تنخر في البناء الاجتماعي كله، كما ينخر السوس في أسنان غير نظيفة، وما حكاية الهجرة الجماعية في الإجازات إلا أبسط الظواهر وأقلها ضرراً، فحين يتحول الخروج من حدود الوطن بهجة يُخطط لها وتُعد لها العدة، وإلى بلاد هي أقل شأناً من بلادهم، فإن القضية لا تبقى مجرد قضاء إجازة أو البحث عن راحة واستجمام في مكان مختلف، كما هو حال البشر في بلاد رب العالمين، بقدر ما تُصبح ظاهرة اجتماعية عنوانها ” الهروب من الوطن “، وإن كان هروبا مؤقتا، والسؤال المحرق هنا هو لماذا كان ذلك؟

وبعيدا عن الهجرة الجماعية المؤقتة للسعوديين في إجازاتهم، فإن الظواهر الاجتماعية المقلقة في المجتمع السعودي أصبحت كثيرة، وهي في حالة نمو متصل، رغم محاولات المكافحة، ولكن المكافحة لا تكفي إذا غاب العلاج.

فمثلا تعاطي المخدرات، والتحرش الجنسي بالكبار والصغار، والبطالة، والفساد المالي والإداري، والتطرف الفكري، سواء كان دينياً أو لا دينياً، والشذوذ الجنسي بين الذكور والإناث على حد سواء، كلها تحولت إلى ظواهر ملحوظة في المجتمع السعودي، ناهيك عن ارتفاع معدلات الجريمة من سرقة واغتصاب واعتداء بالقوة وبشكل واضح لأي مواطن بسيط. أجل، كل هذه الأمور تحدث في بلاد الله الواسعة، وهي أمور تترافق مع تعقد المجتمعات وتحولها من البساطة إلى التعقيد، ومن التضامن العضوي إلى التضامن الآلي، وفق نظرية أميل دوركايم في التطور الاجتماعي، فالفساد موجود وكذلك تعاطي المخدرات والتحرش الجنسي وغيرها في كل الدنيا وفي كل المجتمعات، بسيطها ومعقدها، ولكن أن يتحول الأمر إلى ظواهر مفزعة متنامية، وخاصة في المجتمع السعودي، الذي يُفترض فيه أن يكون مجتمعاً دينياً خالصاً يتلقى فيه الفرد مبادئ الدين مع لبن الأم، وربما قبل ذلك، ويسهر على سلامته الأخلاقية حراس فضيلة وخفراء عفة لا همّ لهم إلا وصم الآخر المخالف بالفساد والفسق والفجور وعظائم الأمور، ونظام تربوي تعليمي تقصم فيه المقررات الدينية ظهور الصغار، فهنا يكمن الخطر الذي يُهدد الكيان الاجتماعي بكليّته، والصمت عن مثل هذه الأمور هو ما أوصل الأمور إلى ما وصلت إليه.

فمثلاً، وإلى سنوات قليلة مضت، كان هنالك إنكار شبه كامل لمسألة تعاطي المخدرات في المجتمع السعودي، وقس على ذلك بقية الأمور التي تحولت إلى ظواهر، وأن المتعاطين لا يشكلون أيّة نسبة جدية في المجتمع، وكل تلك الحالات ليست إلا “حالات فردية”، ولكل قاعدة شواذ، فإذا بنا نكتشف بعدها أن المخدرات كانت تنهش جسد المجتمع، وخاصة في أوساط الشباب من الذكور والإناث الذين يشكلون ما يقارب 70 بالمئة من المجتمع، حيث أنه وخلال سنوات تعدّ على أصابع الكف الواحدة، تم ضبط مئات الملايين من الحبوب المخدرة، وآلاف الأطنان من الحشيش، وعشرات الكيلوغرامات من السموم البيضاء، ناهيك عن مئات الآلاف من زجاجات الخمور، وكل تلك المصانع البدائية للخمور التي تنتشر في القارة السعودية من البحر إلى الخليج، ومن أطراف اليمن إلى بادية الشام، ولا نتحدث هنا عن اليافعين الذين ماتوا أو جنوا نتيجة استنشاق أبخرة المواد اللاصقة والحارقة. هذا عن المضبوطات التي في أحسن الأحوال لا تتجاوز العشرين في المئة مما هو مهرب، أما الباقي فقد تسرب إلى الأجساد الغضة، الأجساد الشابة التي هي لبنات المجتمع في المقبل من أيام.

أما التحرش الجنسي، وخاصة التحرش بالأطفال، وفي محيط الأقارب في كثير من الأحيان، فقد أصبح هو الآخر ظاهرة في المجتمع السعودي، ولا أدل على ذلك من هذا الكم من البرامج التلفازية التي تدق ناقوس الخطر بالنسبة إلى هذه الظاهرة وغيرها من ظواهر تهدد كيان المجتمع، حيث تحولت إلى نواقيس وأجراس تقرع بعنف في زوايا كثيرة من المجتمع السعودي، ولم يعد سؤال أرنست همنغواي “لمن تُقرع الأجراس” سؤالا دون جواب.

أما الفساد المالي والإداري فقد تحول إلى سلوك اجتماعي مقبول، سواء كنا نتحدث عن مسؤول كبير في هذا الجهاز أو ذاك، أو عن مجرد عامل بسيط أصبح لا يقدم الخدمة التي هي جزء من عمله إلا بعد أن ينال ما يعتقده حقاً مباحاً له، في ظل سلوك كان يُعتبر شاذاً قبل سنوات من الزمان، فإذا به اليوم هو القاعدة في تصريف الأمور، ويصبح لسان الجميع هو تلك اللافتة التي وضعها موظف خليجي على مكتبه: “الدراهم مراهم، حطها على الجرح يطيب”.

سيأتي من يقول إنه ليس من المناسب نشر الغسيل القذر لمجتمع ننتمي إليه، فكل المجتمعات فيها غسيل قذر، وهذا حق إلى حدّ ما، ولكن إن لم يُنشر الغسيل القذر فإنه سيتعفن ويتعطن وفي النهاية يفسد كله، وهو ما حدث لكثير من المجتمعات، لذلك يجب النشر في أشعة الشمس كي لا يفسد كل الغسيل. وهذه الظواهر المفزعة في المجتمع السعودي أمور أصبحت معروفة للقاصي والداني، للبسيط من الناس ولحامل أعلى الدرجات العلمية في التحليل وسبر الظواهر، ولذلك لا بد من مناقشتها ومعرفة الأسباب التي تقف وراءها، مهما كانت هذه الأسباب موجعة، ففي النهاية تفقد المهدئات فاعليتها حين يستشري المرض، ويصبح من الواجب أن يُعالج الأمر جراحياً، وإلا فإن الموت البطيء للمجتمع، وما يترتب عليه من أمور أخرى، هو المآل.

قبل سنوات ليست كثيرة، وتحديدا قبل أيام الطفرة المادية وما رافقها لاحقا من “صحوة” دينية، كما سُمّيت في حينها، لم تكن هذه الأمور تشكل هاجسا أو ظاهرة بقدر ما كانت موجودة بقدر محدود، وذلك كأي مجتمع من مجتمعات هذا العالم. حينذاك، كان المجتمع بسيطاً في كل شيء، وحتى الحداثة المتدرجة التي جاءت مع صناعة النفط، كان المجتمع يتقبلها ويهضمها دون تلبك معوي، ودون هواجس ووساوس “نحن والآخر”، أو “الولاء والبراء”، أو الخوف على قيمنا ومقدساتنا من الأجنبي الدخيل، الذي لا همّ له في النهاية إلا تحطيم ثقافتنا ومقدساتنا، كما أصبحت أدبيات “الصحوة” تحذر وتنشر الوساوس والهواجس، وفكر التآمر والاستهداف، و”تهديد حصوننا من الداخل”، كما كان الكثير من دعاة الصحوة ينذرون، إن لم أقل أغلبهم، لمآرب سياسية في الغالب، انطلت مقولاتها على عامة الناس، ونقلتهم بالتالي من وضوح الرؤية إلى ضبابية الصحوة وهم لا يشعرون.

كان المجتمع بسيطاً يسير نحو الحداثة، والحداثة الفكرية بشكل خاص، بخطى واثقة تتلمس مستقبلاً، واثقة من إشراقه وآماله، رغم الإمكانيات المحدودة وشح الموارد حتى مع وجود النفط.

بإيجاز العبارة، كان المجتمع السعودي آنذاك مجتمعاً “طبيعيا “، أو مجتمع دون عقد تُذكر إن صح التعبير. صحيح أن بساطة المجتمع كان لها دور في بساطة الرؤية هذه، ولكن البساطة لم تكن كل شيء، كان هناك ثقة بالنفس محددة لسلوك لا يخشى من التعامل مع الآخر الغريب، ولا تسيطر عليه هواجس أصالة مصطنعة، أو وهم ماض تليد أصبح يُشكل لاحقا قيداً على الانخراط في عالم يسير إلى الأمام، فيما عيوننا خلعت من محاجرها، وعقولنا لوّثت بأفكار هي أشد فتكاً من أقوى مخدرات العصر، فمخدرات الفكر هي أفتك أنواع المخدرات، إذ أنها في النهاية تشل المجتمعات وتقتلها، ولا تكتفي بالأفراد، الذكور منهم والإناث. ولم يكن المجتمع آنذاك يعيش في “جاهلية جديدة”، كما كانت تروّج أدبيات الغفوة، بل كان المجتمع متدينا وواعيا رغم الأميّة المستشرية، وكانت شرعية الدولة السعودية، وكما هي الآن، قائمة على الدين، ولكن اليسر كان هو المنهج وهو المسار، فسبحان الذي يُغير ولا يتغير.. هذا ويتواصل الحديث في الحلقة القادمة إن شاء علاّم الغيوب.

المصدر: صحيفة العرب – لندن