د. وحيد عبد المجيد
د. وحيد عبد المجيد
رئيس مركز الأهرام للترجة والنشر ، حاصل على دكتوراة الفلسفة في العلوم السياسية من جامعة القاهرة 1992

من ينقذ مصر؟

آراء

دخلت الأزمة الممتدة في مصر منعطفاً بالغ الخطر على مختلف المستويات. فالانسداد السياسي الذي يكرّس الانقسام والاستقطاب يحول دون معالجة الأزمة الاقتصادية التي تتفاقم أعراضها المالية والنقدية في صورة عجز متزايد في الميزانية وانهيار سريع للعملة الوطنية وارتفاع في أسعار سلع وخدمات أساسية. ولعل أخطر التداعيات الناجمة هو تبديد آمال قطاعات واسعة من المجتمع في إمكان تحسين مستوى حياتها، وإحباط ثورة التوقعات التي ترتبت على التغيير الذي حدث في السلطة، الأمر الذي يدفع بعض الشباب الأصغر سناً والأكثر غضباً والأشد حماساً واندفاعاً إلى العنف الذي يضفي على المشهد العام في مصر المزيد من القتامة.

وتقف السلطة عاجزة عن وضع حد لهذا التدهور في غياب خطة للإنقاذ، فهى تفتقد القدرة على توفير البيئة السياسية والاجتماعية اللازمة لتعبئة طاقات المجتمع وقدراته، كما أن محاولاتها الاعتماد على قروض ومساعدات خارجية تتعثر بسبب ضعف ثقة صندوق النقد الدولى فى أدائها ولتخبط سياستها الخارجية، لذلك يبدو أنها تراهن الآن على أن يزداد الإحباط الشعبى فيتراجع التعبير عن الغضب سلماً أو عنفاً فيُسّلم الغاضبون بأنه لا جدوى من المقاومة. غير أنه حتى بافتراض إمكان نجاح هذا الرهان الذي لا يقوم على أساس يُعتدّ به حتى الآن، ستظل مصر بحاجة إلى عملية إنقاذ اقتصادي كبيرة لا يمكن أن تتحقق بدون مشاركة شعبية.

فلن ينقذ مصر من هذه الأزمة إلا المصريون. فلا القروض تفيد ولا المنح والمساعدات تنفع، بافتراض أنها ممكنة. وحتى الاستثمارات الأجنبية لا تكفي لتحقيق النقلة التي تشتد حاجة مصر إليها لإنقاذ اقتصادها. وهذا فضلا عن أنها لن تأتي إلا بعد أن يبدأ الاقتصاد في التعافي.

ولذلك فلا خيار أمام مصر إلا الاعتماد على أبنائها وإطلاق الطاقات المعطلة في مجتمعها، وفي أوساط شبابها بصفة خاصة. فلدى مصر اليوم طاقات هائلة يمكن أن تغير وجه الحياة على أرضها إذا عرفت طريقها للعمل والإنتاج ووجدت القيادة التي تأخذ بيدها للإسهام في إقالة وطنها من عثرته وإنقاذ اقتصاده.

ولو أن الطاقة الإيجابية التي تجلت خلال الاحتجاجات التى حدثت من 25 يناير إلى 11 فبراير 2011 وجدت مشروعاً وطنياً جامعاً يستثمرها لاختلف المشهد في مصر الآن تمام الاختلاف. لكن الانقسام السريع أهدر هذه الطاقة في صراعات وصدامات تفاقمت فى ظل سلطة «الإخوان».

ورغم صعوبة استعادة وهج تلك الأيام، لا يزال إطلاق طاقات الشباب في مصر ممكناً إذا أدرك صانع القرار أهمية إثارة إلهامهم عبر سياسة للعدالة الاجتماعية تضع حداً للإحباط. فالمحبطون لا يعملون ولا ينجزون. ولا سبيل لشحن المجتمع بطاقة إيجابية إلا مقاومة الإحباط المترتب على ازدياد التفاوت الاجتماعي.

وهذا هو ما يُستفاد من تجربة نظريتين متعارضتين ثبت خطأ إحداهما وهي التي تقوم على رفع معدلات النمو الاقتصادي أولاً حتى يمكن زيادة حكم الكعكة قبل البدء في توزيعها لتحقيق العدالة. فقد فشلت هذه النظرية في كثير من البلاد، ومنها مصر حيث جُربت على مدى أكثر من ثلاثة عقود. ولم يكف «مبارك» عن التشبث بها حتى آخر لحظة عندما قال في كلمته أمام مؤتمر «الحزب الوطني» يوم 25 ديسمبر 2010، «قولوا لمن لم تصلهم بعد ثمار النمو والتنمية إنها في الطريق إليهم»!

لكن الحقيقة هي أن الثمار لابد أن تصل أولاً بأول مهما كانت ضئيلة. وهذه هي النظرية الثانية التي تقوم على أن الشعور بالعدالة يحفز على العمل والإنتاج ويؤدي بالتالي إلى زيادة معدلات النمو.

وإذا كانت هذه النظرية التي يتبناها بعض أبرز اقتصاديي العالم الآن، مثل جوزيف ستيجلنيز وبول كروجمان، صحيحة عموماً فهي لابد أن تكون أكثر صحة في مصر حيث أظهرت بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء بشأن يناير وفبراير الماضيين تراجع متوسط النصيب اليومي للفرد من الأغذية الأساسية، مثل القمح والأرز والعدس والخضراوات والفواكه، وليس فقط اللحوم والدواجن.

وهذا درس من بين دروس عدة ينبغي أن تستوعبها السلطة حتى توفر على المصريين عناءً لم يعد في إمكانهم تحمل المزيد منه. إنه الدرس الخاص بعدم وجود علاقة آلية بين النمو الاقتصادي والعدالة الاجتماعية. وهو درس مصري قبل أن يكون جزءاً من نظرية اقتصادية صائبة. فكانت مصر مختبراً لهذا الدرس على مدى أكثر من عقدين. كانت الأرقام تفيد ارتفاع معدلات النمو وازدياد أعداد المستثمرين وتوسع نطاق استثماراتهم وتنامي قطاع السياحة. لكن أرقاماً أخرى لم يهتم بها إلا القليل كانت تدل على أن أكثر من 75 في المائة من المصريين لم يحصلوا على شيء من ثمار النمو الاقتصادي.

لذلك ينبغي أن تقترن أية سياسة لإنقاذ الاقتصاد بسياسة اجتماعية تبدأ بتحقيق العدالة في توزيع أعباء خفض العجز في الموازنة العامة حتى لا يتحمل الفقراء ومحدودو الدخل والمستورون القسم الأكبر من هذه الأعباء.

ومن مقتضيات هذه السياسة تجنب الإجراءات التي تنطوي على فرض أعباء متساوية على فئات متفاوتة بشدة في أوضاعها الاجتماعية، من نوع زيادة ضريبة المبيعات التي تسوي بين من لا يملك قوت يومه ومن يملك مئات الملايين والمليارات.

فإذا كان ضرورياً أن تتضمن إجراءات خفض العجز في الموازنة تعديلات في النظام الضريبي، فلتكن بعيدة عن الجيوب الفارغة والبطون نصف الفارغة. وبالإمكان وضع نظام يتيح تحصيل المتأخرات الضريبية الكبيرة من خلال مصالحات تشمل إلغاء الفوائد المفروضة عليها. وهناك الكثير مما يمكن أن يساعد في توفير موارد بعيداً عن الضرائب التي تزيد الفقراء فقراً وتفقر المستورين، مثل إعادة النظر في سياسات تسعير الطاقة للشركات التي تحصل عليها بأسعار مدعمة بحيث تقترب من المعدلات العالمية بتدرج معقول.

ويظل إلغاء الإنفاق العام الترفي في مقدمة الإجراءات التي ينبغي اتخاذها قبل غيرها. ويشمل ذلك السيارات الفارهة ونصف الفارهة. وسيكون لهذا القرار أثر معنوي هائل في المجتمع يفوق قيمته الفعلية، مثله في ذلك مثل قرار مؤقت يحظر استيراد السلع الترفيهية التي تستنزف جزءاً كبيراً من العملات الأجنبية. وليس صعباً أن تتفاهم الحكومة المصرية مع منظمة التجارة العالمية على مثل هذا الإجراء والمدى الزمني له استناداً إلى الخطر الكبير المترتب على أزمتها المالية الراهنة.

وهكذا، فإذا وُضع البعد الاجتماعي ضمن أولويات خطة مدروسة للإنقاذ الاقتصادي، جنباً إلى جنب بناء شراكة وطنية تضع حداً للمخاوف من هيمنة جماعة «الإخوان» على مفاصل الدولة، سيكون ممكناً توظيف طاقات ملايين الشباب الذين يستطيعون إنقاذ مصر إذا أُعيد إليهم الأمل الذي سُلب منهم.

المصدر: جريدة الاتحاد