موسيقى الكلام

آراء

للشعر منذ القِدم حالة خاصة عند الإنسان العربي، الذي وجد فيه جزءاً من هويته وكيانه، وليس من باب المبالغة قولُنا إن الشعر مثّل للعربي سلاحاً نفسياً أشد تأثيراً في بعض الأحيان من الأسلحة المستخدمة في الدفاع عن النفس. واستمرت هذه الظاهرة إلى يومنا هذا، سواء في الفصيح أو النبطي، وبسبب الشعر نشبت منذ القِدم معارك كثيرة، وبسببه أيضاً انتهت صراعات كثيرة، وأزهقت أرواح، وجنى شعراء على أنفسهم، فكم من قصيدة تسببت في مقتل قائلها، ولنا في ما يُروى، ودوّنته كتب التاريخ والسير الأدبية، من أحداث ارتبطت بقصائد شعراء كبار، مثل المتنبي وطرفة بن العبد وبشار بن برد والمقنع الكندي، ومقتلهم بسبب نظمهم لها.

إلا أن السؤال الذي يستحق الوقوف عنده والبحث عن إجابة له، هو: ما الذي يجعل للشعر هذا التأثير الكبير أكثر من النثر (الكلام غير الموزون وغير المقفى)؟ ولماذا لم يتخلَّ العربي عن الإيقاع الوزني حتى في موروثه الشعبي وحديثه اليومي؟

إن لإيقاع الوزن الشعري تأثيره الكبير في نفس المتلقي، بموسيقاه الداخلية التي تطرب لها الأذن والنفس. ولعل ذلك أحد أهم الأسباب التي جعلت الأمثال العربية تميل إلى السجع في صياغتها، وتولّد في العاميات الكثير من الأمثال على هذا النحو، منها على سبيل المثال في الإمارات وغيرها من الدول العربية: «مب كل مرة تسلم الجرّة، لسانك حصانك إن صنته صانك وإن خنته خانك، كل ساقط له لاقط، لا تدخّل عصّك في شي ما يخصّك، شغلةٍ ما فيها استاد يدب فيها الفساد، عيال الصقور ما تبور، ومال المفاليس عند المباليس، ولأغلب هذه الأمثال وغيرها تفعيلاتها الوزنية، ولا نغفل هنا الكثير من الأبيات أو أشْطُرها التي تحولت إلى أمثال».

وفي خطب العرب القدامى، نجد اهتماماً كبيراً من أصحابها بالسجع، ومنها كمثال خطبة مؤسس فرقة المعتزلة، واصل بن عطاء، الملقب بالغزال الألثغ، وكان فطناً فصيحاً رغم معاناته من لثغة صعب معها نطق حرف الراء، وكان مطلع خطبته: «الحمد لله القديم بلا غاية، الباقي بلا نهاية، الذي علا في دنوّه، ودنا في عُلوّه، فلا يحويه زمان، ولا يحيط به مكان، ولا يؤوده حفظ ما خَلَق، ولم يخلقه على مثال سبق، بل أنشأه ابتداعا، وعدّله اصطناعا، فأحسن كلَّ شيء خلقه وتمم مشيئته، وأوضح حكمته، فدَلَّ على ألوهيَّته.. إلخ»، وقد نظمها كاملة على هذا النمط والإيقاع والسجع.

إن لهذه المحسنات اللفظية والموسيقى الداخلية التي كان أصحاب الخطب يرخرفون بها خطبهم، تأثيرها الكبير في المستمعين، أكثر من الكلام الخالي الوزن والقافية.

وأخبرني مرة الدكتور غسان الحسن (أبونزار) كيف أن أحد معارفه لجأ إليه بعد أن رفض أهل الفتاة التي تقدم لخطبتها تزويجه ابنتهم، وعلم أن والد الفتاة محب للشعر والأدب، فطلب من (أبي نزار) أبياتاً شعرية تصوّر طلبه كي يلقيها عند محاولته الثانية لخطبتها، فكتب (أبونزار) أبياتاً أعطاها لذلك الشاب الذي ألقاها على والد الفتاة في محاولته الثانية، فوافق فوراً وتم الزواج.