جاسر عبدالعزيز الجاسر
جاسر عبدالعزيز الجاسر
مدير تحرير صحيفة الجزيرة

ناقتي… يا ناقتي

آراء

حان وقت القطيعة بعد ثبوت أن «البعارين» مثل البشر: تخون الصداقة والثقة، وتجعل المحبة والثقة معبراً للضرر والأذى. وأن طبعها يشابه البقر التي سببت «الجنون» لأربابها الغربيين.

قدمنا للبعير كل سبت فجاء أحده محملاً بـ «كورونا». أحببنا البعارين فجعلنا «كبدتها» فطوراً وحليبها غبوقاً. استخففنا بالحمى المالطية تمسكاً بمتعة فوران حليبها. استجلبنا لها شعير العالم من أجل سواد عينيها. أقمنا الأسوار الممتدة على الطرق حماية لها من البشر وتهورهم. جعلنا أرضنا موطناً عالمياً لها وجمعنا أشتاتها من كل البقاع. كتبنا لها وفيها القصائد تغزلاً في أنفتها وشموخها ووفائها الأصيل. أقمنا لها المزاين والاحتفالات والمهرجانات حتى ضربت أثمانها الملايين. نحن شعب أخلص للناقة وقدمها على كثير من حاجاته وجعلها علامة دالة له وعليه، فكانت النتيجة أن الأخ أصبح ينفر من أخيه فلا يسلّم عليه إلا من بعد، وإن عطس أحدنا سرت في صحبه قشعريرة تنسيهم أن يشمتوه وتدفعهم للفحص والتحليل.

«الصحة» التي داهنت البعير طويلاً لم تجد مناصاً من اتهامه بينما تعجز «الزراعة» عن استيعاب الصدمة، فالنياق وأصحابها هم مصدر قيمتها وقوتها، وهي حتى الآن لا تقر بالتهمة وإن لم تقدم ما ينفيها.

عامان ضاعا في العمل بجدية على محاصرة هذا الغازي، لأن أحداً لم يقل الحقيقة بجلاء، وإنما كانت المداورة والتبرير واستسهال الوضع الأبرز حضوراً. لذلك على «الزراعة» ألا تفتح الجدل مرة أخرى وإنما الالتزام الكامل بتوجهات «الصحة» والعمل بها، حتى لا تكون شريكة في نشر المرض وشيوعه.

الحماية العاطفية لـ «الإبل» كانت كارثية لأنها حاولت لي الحقائق، وتجنبت المواجهة المباشرة خشية رد الفعل. لا يهم درجة تورط الإبل، المهم أنها أحد المصادر والحاملة للفايروس، فلا بد من حجزها وعزلها، والمراقبة الصحية الدقيقة للمتعاملين معها والمتصلين بها.

أصحاب الإبل يمانعون ويقامون ويزدادون التصاقاً بنياقهم تأكيداً لبراءتها ومعهم في ذلك كل الحق، لأن تمركز «كورونا» الأولي كان في الأحساء وهي ليست أرض بعارين، بينما لم تشهد مناطق كثافتها إصابات حتى الآن، ولم يثبت أن بين المصابين أحد ملاك الإبل أو رعاتها، ثم إن الفايروس يسكن البعير منذ عام 1992 فلم يظهر له أثر طوال تلك الأعوام. على رغم كل ذلك فإن التراخي هو الخطر، ولا مناص من التركيز على الملاك والرعاة لأنهم الرابط الحي بين البعير والبشر، حتى لو اقتضى الأمر عزلهم مرحلياً، فالقاعدة الصحية تؤكد أن الوقاية خير من العلاج.

ليس «كورونا» كله وجهاً قاتماً، بل قدّم خدمات جليلة، فهو جعل النظافة الشخصية هاجساً اجتماعياً حتى إن غسل اليدين لم يعد عملاً عشوائياً متعجلاً، بل تطبّق فيه القواعد الصحية المعلقة في ممرات المستشفيات منذ عقود من دون أن ينظر إليها أحد، وتجنّب الناس زيارة المستشفى من دون ضرورة. وخف الهمس واللمز لأنهما يقتضيان قرباً وملامسة، أما العناق وتبادل القبل في السلام فيوشكان أن ينقرضا، فالسائد الآن هو «… وإلا سلام من بعيد».

غيّر «كورونا» الكثير فينا، واكتسبنا من الخوف سرعة الاستجابة فلا شيء يغير أحوال الناس مثله، وإن استمر الوضع فإن عادات وسلوكيات كثيرة، عمرت طويلاً، ستندثر وتختفي. أما حقبة الإبل فستكون جزءاً من التاريخ بعد السقوط المروع لـ «كبدة الحاشي» التي كانت نكهة الصباح ووقود النشاط. ستنتهي «الحمى المالطية» وإن كانت، حتى الآن، أخطر من «كورونا».

لا أحد يعرف مآلات «كورونا»، إلا أن وزارة الصحة تبذل الجهد المطلوب وتتحمل تبعات الأخطاء المتراكمة، وهي لن تكون قوية وقادرة ما لم تكن صاحبة القرار النافذ في كيفية العلاج وإجراءات الحجز، وعلى الجهات الأخرى أن تتخلى عن سيادتها، موقتاً، لتكون ضمن جنود الصحة والمطيعة لها من دون تردد أو تراخٍ.

المصدر: الحياة