هاشم صالح
هاشم صالح
مفكر عربي يقيم في باريس

نحن والثقافة الدينية

آراء

قبيل مغادرتي إلى باريس بأيام قلائل، استمعت إلى محاضرة شائقة فعلا. كان ذلك في مقر مؤسسة «مؤمنون بلا حدود» الواقع قبالة المحطة الكبرى وسط الرباط العامرة. وكان ضيفها هذه المرة الدكتور يحيى اليحياوي الخبير في الإعلام والاتصالات. وقد قدمه للحضور الكريم الدكتور المنتصر حمادة ذو الروحانية الصافية والإيمان العميق، وهو مختص بالشؤون الدينية والفلسفية على حد سواء. أكاد أقول إن عنوان المحاضرة هو موضوع الساعة: «الفضائيات العربية والخطاب الديني». عندما سمعت بذلك، قلت لا ينبغي أن يفوتني لقاء كهذا. منذ زمن طويل وأنا أفكر في هذا الموضوع بشكل غامض دون أن تكون عندي أي معطيات دقيقة عنه. وهذا ما قدمه لنا الأستاذ المحاضر في عرضه الموضوعي بشكل واضح وبالأرقام. كنت أعرف أن هناك فضائيات دينية تبث على مدار الساعة. ولكن، ما كنت أعرف عنها شيئا كثيرا. ولذا، كم كانت دهشتي كبيرة عندما عرفت أنه توجد أكثر من مائة فضائية دينية في العالم العربي! 104 بالضبط. من كان يتوقع ذلك؟ من أشهرها قناة «اقرأ»، وقناة «الرسالة»، و«القناة السادسة» في المغرب… إلخ.. ولكن، ما عدد الفضائيات العربية ككل، دينية أو غير دينية؟ 1070 فضائية يا سادة يا كرام! وهذا يعني أن عشرها مخصص للدين حصريا. ولكن، حتى الآن، لا يزال الفكر التقليدي القديم يسيطر على هذه الفضائيات، فالبرامج يهيمن عليها النقل لا العقل، كما أوضح لنا الدكتور اليحياوي. ولكن، ألم يكن ذلك متوقعا؟ لا توجد حركة تنويرية واسعة في العالم العربي أو الإسلامي كله لكي ينعكس ذلك على الفضائيات والبرامج الدينية. لا توجد تأويلات عقلانية تجعل النص يتساير مع الزمن الحاضر. ولكن، يحسب لهذه الفضائيات أنها تتحدث بالعربية، وهذا مكسب لا يستهان به. فقد غزتنا القنوات الأجنبية في عقر دارنا، إلى درجة أننا لم نعد نعرف هل نحن عرب أم لا؟ لقد نوه الدكتور اليحياوي بذلك ومعه الحق. كما أن الكثير منها يدعو إلى الهدى ومكارم الأخلاق وقيم الإسلام وروحانيته الرائعة. وهذا مهم جدا. ولكن الأستاذ المحاضر يأسف لأن بعضها تحول إلى منابر للفتاوى الارتجالية العشوائية من جهة، والمتحجرة المتزمتة من جهة أخرى. وغالبا ما تصدر عن أشخاص غير معروفين أو غير ضليعين في العلوم الدينية، ثم إنه تنقصهم العلاقة بالعصر. كل فتاواهم تختزل إلى حلال – أو حرام، يجوز – أو لا يجوز. وما لا يجوز أكثر بكثير مما يجوز. تقريبا، لم يعد أي شيء يجوز! تقريبا، لا تستطيع أن تغازل امرأتك. على أي حال، فهذه الفضائيات مشغولة بحث النساء على لبس النقاب لا الخمار، وتحريم الغناء والموسيقى والفنون الجميلة عموما. كما أنها مختصة بالتكفير والتبديع والتغرير بالشبيبة للانخراط في سلك «الجهاد».. وهناك ظاهرة خطيرة أيضا: هي انتشار التعصب المذهبي على شاشات هذه الفضائيات، حيث تحصل مبارزات هائلة جديرة بالقرون الوسطى! إنهم ينبشون حوادث التاريخ وتراكماته. وهكذا، تشتعل الحرائق في كل مكان.. وهذا دليل على أن الفكر التقليدي مهيمن بشكل مطلق على كلتا الجهتين.. ثم يقولون لك إن العالم العربي ليس بحاجة إلى تنوير! إنه أكثر استنارة من سويسرا أو الدنمارك أو السويد! تخيلوا لو أنه ظهرت فضائيات مضادة: أقصد فضائيات تتحدث عن الدين بلغة العقل لا النقل، لغة العصر الحديث لا العصور الغابرة. تصوروا لو أن عبد المجيد الشرفي أو عبد الحميد الأنصاري أو محمد الحداد أو فهمي جدعان أو عشرات غيرهم أصبحوا نجوما تلفزيونية مقابل الدعاة أو الشيوخ التقليديين.. كم كانت ستتغير الصورة؟ تصوروا لو أنه ظهرت قناة تنويرية واحدة مقابل مائة قناة أصولية! كم كانت ستختلف الأمور؟ دعونا نحلم. هل الحلم ممنوع أيضا؟ وما الهدف النهائي لكل هذه الفضائيات الدينية؟ إعادة أسلمة المجتمع. لكأن المجتمع ليس مسلما بما فيه الكفاية لكي نؤسلمه من جديد! لماذا كل هذا الاستلاب في الغيبيات والماورائيات وحشو الحشو والخرافات؟ لمصلحة من كل هذا الانفصال عن الواقع والانفصام؟ لماذا كل هذا التخدير لعقول الشبيبة والأجيال؟ وكيف يمكن أن ننافس الأمم الأخرى بعقلية متخلفة كهذه؟ وماذا عن الرؤيا العلمية والفلسفية للكون: ألسنا بحاجة إليها يا ترى؟ هذا السؤال لا يخطر على بالهم أبدا. لماذا هي غائبة عن حياتنا؟ لماذا لا توجد فضائيات تبثها على مدار الساعة؟ عندئذ، يمكن أن يحصل توازن بين الرؤية الدينية للكون والرؤية العلمية الفلسفية. وعندئذ، يمكن أن نربح الدنيا والآخرة. وهذا ما ينقصنا بشكل موجع بخلاف الأمم المتحضرة. أعتقد أن الرد الوحيد على هذه الثقافة الدينية القروسطية، على هذا الطوفان الكاسح، هو أن تظهر قنوات تشرح لنا العالم بطريقة علمية، فيزيائية، بيولوجية، فلكية، بل وتبسط لنا النظريات المعقدة التي لا يفهمها إلا الاختصاصيون. ثم تشرح لنا الدين بطريقة فلسفية عقلانية أيضا. كم سيكون ممتعا لو ظهرت فضائية تلفزيونية تشرح لنا رؤية الكندي والفارابي وابن سينا وابن رشد والمعري ومن سواهم للدين؟ ولكن هذا لا يكفي. ينبغي أن نضيف إليها رؤية فولتير وكانط وجان جاك روسو وبقية فلاسفة الأنوار الكبار. كم سيكون رائعا أن تظهر فضائية متخصصة في شرح أفكار أركون عن الإسلام؟ تلزم عشر فضائيات لشرح هذه النظريات التحريرية المضيئة عن تراثنا الإسلامي العظيم. عندئذ، يمكن أن يحصل التوازن في الساحة العربية بين التقليديين والتحديثيين. فبضدها تتبين الأشياء. أما الآن، فالتوازن مختل كليا لصالح التقليديين. ومن هنا، فلا يوجد بصيص نور في العالم العربي حاليا. هل يكفي أن نكرر كالببغاوات تعاليم تقليدية موروثة منذ مئات السنين؟ وهي تعاليم صدئت واهترأت بعد أن أكل عليها الدهر وشرب! اذهبوا إلى كليات اللاهوت الكاثوليكية أو البروتستانتية في أوروبا وانظروا كيف يتحدثون عن تراثهم المسيحي. إنهم يستخدمون أحدث المناهج التاريخية في قراءته وتفسيره. إنهم يسلطون عليه أضواء العلم والعقل. ما أحوجنا إلى ذلك الآن!

المصدر: الشرق الأوسط