شتيوي الغيثي
شتيوي الغيثي
كاتب وشاعر سعودي

هشاشة الأوضاع المحلية

آراء

في سنوات طويلة كان الإعلام المرئي، وخاصة في التلفزيون السعودي، قبل ظهور الفضائيات التي بدأت تزاحم التلفزيونات الرسمية، كان يُصور الأوضاع وكأنها متينة جدا، بحيث لا يمكن أن يهزها أي شيء، كان من المعهود الحديث عن أكبر ملعب رياضي، وأكبر مطار، وأطول برج، وما إلى ذلك. كانت فكرة الضخامة هي الهاجس الذي يتم تصوير التطور الحضاري من خلاله. فكرة الضخامة كانت تدل على دولة قوية ومتينة في تصور من يروجون لذلك في الإعلام الرسمي، وكلما كانت فكرة الضخامة موجودة في عقول أبناء الوطن كان الاعتزاز بالوطن متأصلا، ولكن هذا الأمر يمكن أن يكون إشكاليا بعد سنوات، إذ يمكن أن تكون الخامة هي سبب الخلل بمعنى صعوبة إدارة أكبر مطار، وصعوبة إدارة أكبر ملعب، وصعوبة إدارة أطول برج مع تقادم العهد، بحيث يكشف الوضع عن هشاشة تحت تلك الضخامة. الهشاشة التي تجعل فأرا يمكن أن يهدم سد مأرب كما في الأساطير اليمنية القديمة.

كثير من المشاريع التي كنا سمعنا عنها، وتم الإعلام عنها قبل سنوات كالمدن الاقتصادية مثلا، لم توجد على أرض الواقع، إضافة إلى تعثر بعضها بسبب تلك الضخامة التي كان مولعا بها كل من يشارك فيها من المعماريين والاقتصاديين وأصحاب المشاريع الضخمة، الأمر الذي لم يقدنا إلى تحقيق شيء بسبب تضخيم الأمور والعجز لاحقا عن تنفيذها، فظهرت مشاريع متوقفة أو متعطلة أو متأخرة مما ينم عن هشاشة وقدرة حقيقية على تنفيذها قبل البدء بها.

على المستوى الاقتصادي تم قبل سنوات قليلة الحديث عن أقوى اقتصاد عالمي وأضخمه، بحيث وصل إلى تريليونات ضخمة يصعب على عقلي غير الاقتصادي أن يفهم فيها، صحيح أن كثيرا من المواطنين قد استفاد من فترات الطفرة الاقتصادية، لكن الحديث عن الضخامة لم يكن كافياً، إذ كان من المفترض الحديث وقتها عن إصلاحات اقتصادية تعزز من تعددية الموارد الاقتصادية حتى لا يتحول التضخم إلى مشكلة اقتصادية لاحقا، وهذا ما حصل بعد انخفاض أسعار البترول في الخليج عامة لنكتشف أن الاقتصاد كان هشاً رغم تحذيرات كثير من الاقتصاديين السعوديين وقتها من هذه الضخامة، ثم لندخل في حالة تقشف اقتصادي بعد سنوات الطفرة، فقادت الأمور إلى أشبه ما يمكن أن نسميه “طوارئ” اقتصادية.

على المستوى السياسي كان الحديث عن متانة العلاقات السياسية مع الدول الكبرى أو الدول العربية والإسلامية، لكن ما بدأنا نشاهده أن هناك خضات سياسية وأزمة علاقات تحصل كل فترة ما بيننا وبين الدول حتى صارت الدولة الصديقة: أميركا تلوح بقانون جاستا ضدنا، فضلا عن تخلي بعض العرب عن متانة العلاقات بيننا وبينهم، وكذلك الحال في بعض الدول الإسلامية، فلماذا قادت الأمور إلى ما قادت إليه؟

على المستوى الديني كان العقل السعودي يروج في المساجد والمدارس والجامعات والمؤسسات الدينية عن تدين هذا المجتمع، وأنه المجتمع الأقرب إلى روح الإسلام، وهو التدين الوسطي وما إلى ذلك، والأمر الذي فاجأنا أن فئة قليلة من أبنائنا تحولوا إلى متطرفين وإرهابيين يقتلون على الهوية، وآخرين انساقوا إلى الإلحاد بشكل واضح في مواقع التواصل الاجتماعي، في حين أن الأخلاق العامة في المجتمع تحولت إلى أخلاق أقرب منها إلى النفاق بسبب التدين الشكلي في حين كانت سابقا تدينا شعبيا فطريا لا يقود إلى سوء الأخلاق الحالية من غش للأمانة وعدم الحفاظ على الممتلكات أو غياب أخلاق العمل أو الكذب أو الشتائم “الدينية” إذا صح التعبير وغيرها حتى فُجع الكثيرون مما وصلت إليه الحال الأخلاقية لدى بعض شبابنا.

على المستوى الثقافي أيضا نجد أن الثقافة السعودية تتراجع كثيراً، فالأندية الأدبية بوصفها الممثل الأكثر التصاقاً بوزارة الثقافة، تتراجع تراجعاً خطيراً ومخجلاً، إضافة إلى أن الثقافة الحالية يؤثر على تحركها عدد من المدونين في تويتر وغيرهم، ورغم هشاشة الطرح وتفاهته في بعض الأحيان إلا أنه بدأ يأخذ مكانته داخل التفكير الشبابي السعودي حتى أصبح بعض “الأقلام” التويترية أكثر شهرة، وتتبعه ملايين دون مناقشة محتوى ما يطرح، إضافة إلى عجز الثقافة السعودية في غالب مؤسساتها عن مجاراة ما يطرح في الساحة الثقافية من تغيرات، ولعل معرض الرياض هو الوحيد حتى الآن بقي صامدا إلى حد ما من ناحية المعروض من الكتب رغم تراجعها وغياب عدد من دور النشر، أما في البرنامج الثقافي المصاحب للمعرض فهو برنامج ينم عن فشل في إدارة الشأن الثقافي في السعودية.

على المستوى الاجتماعي تفككت العلاقات الأسرية المتينة سابقا إلى علاقات متوترة ينم عنها مدى العنف الأسري ومدى العنف بالعلاقات العامة بين الأشخاص في العمل والعنف اللفظي أو الرمزي بين الأشخاص في الشوارع وفي المدارس بين الطلاب ومعلميهم وغيرها، وكل المحاولات التي تحاول الإبقاء على التواصل الأسري في بعض البيوتات الكبيرة تحولت إلى اجتماعات شكلية وصناديق نقدية لا تذهب إلى المحتاجين من أبناء العشيرة، فضلا عن “الهياط” الاجتماعي في مزاين الإبل أو طريقة تقديم الولائم للناس، وهو ما يقود إلى شكلية العلاقات الاجتماعية وهشاشتها بحيث أصبحت رياء اجتماعيا أكثر منه حقيقة ترابط اجتماعي متين.

ما الذي قاد إلى كل تلك الهشاشة الاقتصادية والدينية والاجتماعية والثقافية؟ ما الذي جعل الأمور تتراجع بدلا من أن تتقدم؟ ما الذي جعل عمل سنوات طويلة وبناء حضاريا ضخما يصل إلى هذه النتائج؟

في كل مجال من المجالات السابقة كان عدد من المهتمين بالقضايا السياسية والقضايا الاقتصادية والدينية والثقافية والاجتماعية يرفعون الصوت عاليا، ويكتبون في إصلاح الأمور، أو يقدمون دراسات جيدة يمكن الاعتماد عليها، ولكن لا أحد يهتم لهم. حتى إذا وصلت الأمور إلى ما قادت إليه حاليا خرج الجميع يحاولون إنقاذ ما يمكن إنقاذه من عمليات طوارئ إصلاحية في كثير من أشكالها، وقد كان بالإمكان أن تكون أقوى لو أن الإصلاح كان في سنوات الرخاء أكثر من السنوات العجاف.

المصدر: الوطن