عمار بكار
عمار بكار
كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد

هل بدأت الآلات في السيطرة على الإنسان؟

آراء

لمشاهدي الأفلام السينمائية الأميركية، سيبدو العنوان شيئا من الخيال الجامح الذي تراه في بعض أفلام “الأكشن”، ولكن لمن يتابع التطور الرهيب للتكنولوجيا، ربما يدرك أنها حقيقة شبه قائمة اليوم في المجتمعات المتقدمة، وهي في ازدياد سريع خلال العقدين القادمين، وستشمل دول العالم بلا استثناء.

الحكاية باختصار أن نمو برامج الكمبيوتر وخدمات الإنترنت والروبوتات والأتمتة لعالم الصناعة والزراعة جعلت الكثير من الوظائف المتوسطة والدنيا أمرا هامشيا يمكن الاستغناء عنه ببرنامج كمبيوتر أو روبوت أو خدمة إنترنت متقدمة. هناك إحصاءات مكثفة في أميركا تكشف أن هناك انخفاضا حادا وسريعا في كل المهن ذات الطابع الروتيني ومهن معالجة المعلومات، وهو نفس الانخفاض الذي حصل في العقود الماضية في مجالي الزراعة والصناعة بدليل أن الإنتاج الزراعي والصناعي في أميركا يزداد بينما نسبة ضئيلة جدا من الأيادي العاملة لها وجود في هذه المجالات بسبب التكنولوجيا.

أحد الباحثين الأمريكيين يقول بأن التكنولوجيا تحولنا سريعا إلى نوعين من الناس: نوع يخبر التكنولوجيا ماذا تفعل، ونوع تخبره التكنولوجيا ماذا يفعل. النوع الأول يشمل المستثمرين وذوي القدرات المعرفية المتقدمة، والنوع الآخر هو بقية الناس، الذين صارت برامج الكمبيوتر تبرمج أعمالهم وتتابع إنتاجيتهم وتحدد لهم بالضبط مسار عملهم لحظة بلحظة. أحد الأمثلة تروى عن مستودعات أمازون الضخمة في بريطانيا والتي يتصرف فيها العمال حسب ما تخبرهم الطلبات القادمة لهم على الكمبيوتر، وهم لا يعرفون فقط من البرامج ما هو الكتاب أو البضاعة التي سيحضرونها، بل يحدد لهم الكمبيوتر مكان الكتاب، ويحدد لهم أقصر طريق يذهبون فيه إلى مكان الكتاب، ويقيس إنتاجيتهم، ويرسل لهم رسالة على الموبايل في حال تأخروا في إنجاز العمل. هذا مثال عندما يخبرك الكمبيوتر ماذا تفعل، وهو ما يسميه باحث آخر بـ”أتمتة الإنسان”.

لكن حتى هذه الأتمتة هي مجرد خطوة نحو التخلص من الإنسان والانتقال للروبوت، وهذا ما حصل في مستودع آخر لأمازون في أمريكا حيث تخلصت تماما من العامل البشري، واعتمدت على “الإنسان الآلي” أو الروبوت في كل المهام.

التخلص من العامل البشري يحصل من حولنا بشكل يومي، ونحن لا ننتبه لذلك. لم نعد بحاجة لسكرتير يعد جدول المهام لأن جدول المهام على الموبايل أكثر فعالية، وصرنا لا نحتاج لموظفي وكالات السفر لأننا نقوم بحجوزاتنا خلال دقائق من مواقع الكمبيوتر، ولم نعد نحتاج لأخصائيي المكتبات لأننا لم نعد بحاجة للمكتبات العامة ومثل هذا آلاف الأمثلة من حولنا. حتى الأطباء قد نتخلى يوما عن معظم خدماتهم مع التقدم السريع لبرامج كمبيوتر تجمع مؤشرات حالتك الصحية وتخبرك بسرعة عن حالتك والدواء المناسب لك، معتمدة على كمية هائلة من المعلومات الصحية التي لا يستوعبها عقل الطبيب. حتى العمليات الجراحية هناك تزايد لاستخدام الروبوتات فيها، وأنا شخصيا رأيت تجربة في دولة غربية، أدخل الطبيب معلومات المريض في جهاز الكمبيوتر، ليطبع بعدها توصيفا كاملا بالمرض والدواء. حتى المحللون الماليون سيعانون، فهناك تسارع لبرامج الكمبيوتر التي تحلل ملايين المعلومات وتتوقع حركة السوق بدقة لا بأس بها.

لماذا نخترع التكنولوجيا وتستثمر البشرية فيها مليارات الدولارات سنويا إذا كانت تسبب هذا التناقص في الوظائف المتاحة وتزيد فقر الكثيرين الذين يصبحون عاطلين عن العمل؟ الجواب باختصار لأنه قد ثبت تماما أن الاستثمار في التقنية يتيح عائدا استثماريا أفضل لمعظم الشركات والمؤسسات، وهذا يزداد تدريجيا حتى صار أمرا بديهيا في عالم الإدارة والاستثمار، وهذا ليس فقط بسبب الاستنغناء عن كثير من الموظفين، بل أيضا لأنها ترفع إنتاجية الآخرين بنسب عالية غير ممكنة بدون التكنولوجيا.

هذا يعني أن المستثمر وصاحب رأس المال، بالإضافة لذوي التخصصات المعرفية العالية قد استفادوا وتزداد فائدتهم من التكنولوجيا بشكل مطرد، والأرقام التي تنشرها الإحصائيات خير دليل على ذلك. هذا بالضبط ما يعنيه “الاقتصاد المعرفي”، إنه ذلك النموذج الذي يمنح تقديره ومنفعته الكاملة لهذه الفئة (وهي أقلية)، على حساب الأغلبية التي لم تعد نفسها لهذا اليوم.

بالنسبة لنا، فعلى الرغم من هذا النمو الضخم لأهمية التكنولوجيا في حياة البشرية، ما زالت معظم الدول العربية في حالة استهلاكية كاملة ليس فقط للتكنولوجيا وإنما أيضا للطبقة المتقدمة التي تخبر التكنولوجيا ماذا تفعل، وتحول العالم العربي إلى اعتماد كامل على الدول التي استطاعت بناء اقتصاد معرفي مميز.

هناك ثلاثة خيارات فقط لأي أمة لتعد نفسها للتعامل مع هذا الواقع الذي يفرض نفسه عاما بعد عام، الأول: هو الاستثمار في التكنولوجيا، وبناء شركات تكنولوجية عملاقة، لتكون في كرسي رأس المال، الذي يستفيد بشكل ضخم من هذا التحول العالمي.

الثاني: هو رفع مستوى التعليم التقني داخل الدولة، بحيث يتحول جزء جيد من الشباب الخريجين إلى موظفين لهم قيمتهم الخاصة في عالم التكنولوجيا (كما فعلت الهند وأوروبا الشرقية).

الثالث: هو التركيز على الأعمال الإبداعية، لأن الإبداع هو الأمر الوحيد الذين لن تستطيع الآلة فعله عبر السنوات (وإن كان سيمكنها جعل الحاجة إلى الإبداع أقل). أستطيع أن أؤكد أنه لا توجد أي دولة عربية لديها مناخ يشجع الإبداع ولو بالحدود الدنيا مقارنة بالدول الكبرى (أقول هذا علما أن رسالتي للدكتوراه كانت عن إدارة الإبداع في المؤسسات).

التكنولوجيا تمثل تطبيقا للمقولة “فوائد قوم عند قوم مصائب”، وعلينا أن نحدد من خلال تخطيط واضح، في أي الجانبين سنكون بعد عقد أو عقدين من الزمن.

الأسبوع القادم، سأتحدث عن أخطر ما يمكن تخيله لأثر الآلة السلبي والمدمر على البشرية، وهو ما خصص له عدد كبير من جمعيات حقوق الإنسان في العالم شهر أبريل لهذا العام للتحذير منه.

المصدر: الوطن أون لاين