حازم صاغية
حازم صاغية
كاتب وصحفي لبناني

تغيّر معنى القضيّة الفلسطينيّة: لمَ الاستغراب؟

الأحد ٢٧ سبتمبر ٢٠٢٠

تعرَّض المشرق العربيُّ، ولا يزال، لتحوُّلات أخذت شكلَ العواصف المتلاحقة. على مدى سنوات تقلُّ عن عقدين، تغيَّر كلّيّاً العراق وسوريَّا، وها هو لبنان يجتاحه تغيُّر نوعيٌّ. البعض القليل من هذه التغيُّرات كان إيجابيّاً. البعض الكثير كان سلبيّاً. بعض ثالث لا يزال يشوبُه الغموض. في عراق 2003، وبحجج غير قانونيَّة وبقدر معتبر من الأكاذيب، أسقط الأميركيُّون صدَّام حسين. الديكتاتور هوى بسهولة بعدما حكم منذ 1968 كنائب رئيس، ومنذ 1979 كرئيس مطلق. الديمقراطيَّة السياسيَّة ترافقت مع انفجار العفن الطائفيّ الذي كانت تمنعه الدولة الاستبداديَّة فيما تفاقمه في الخفاء. إيران، عبر ميليشياتها الطائفيَّة، مدَّت يدها وانتزعت لنفسها حصَّة الأسد. الآن صرنا أمام عراق آخر. محاولة مصطفى الكاظمي لإخراج البلد من فم الحوت لا تزال قيدَ الاختبار. وهي قد تنجح وقد تفشل، لكنْ في الحالتين لن يكونَ العراق ما عهدناه قبلاً. علاقة سُنَّته بشيعته، وأكراده بمركزه، والعكس بالعكس، كلُّها لم تعد تشبه ما كانتْهُ قبلاً. الشيء نفسه يصحُّ في ما خصَّ علاقة العراق بجيرانه، لا سيَّما إيران. سوريَّا بنتيجة الثورة، وخصوصاً بنتيجة الثورة المضادَّة، صارت أيضاً بلداً آخر. التكوين السكَّانيُّ تغيَّر كثيراً. العلاقات الطائفيَّة في الداخل تغيَّرت كذلك. الخريطة الطبقيَّة وتوزَّع النُسب العمريَّة اختلفا نوعيّاً. وهذا فضلاً عمَّا تسمّيه اللغة الصحافيَّة بإفراط: تحوَّل سوريَّا من لاعب إقليميّ إلى ملعب يضجُّ بالاحتلالات والتدخُّلات من كلّ…

فِعلة إسطنبول!

الإثنين ١٣ مايو ٢٠١٩

لو وافق رجب طيّب إردوغان على نتائج الانتخابات البلديّة في إسطنبول لما كان يُشبه نفسه. فعُظام الرئيس التركي يأبى عدم الاستحواذ على عظَمة تتوزّعها قارّتان وإمبراطوريّات عدّة. إنّها ورقة التاريخ التي لا يتخلّى عنها زعيم قومي وديني مُصاب بالانتفاخ. إقراره بالهزيمة في أنقرة مثلاً هو فكّ ارتباط بمدينة حديثة الصنع، اخترعها أتاتورك عاصمة كما لو كان يتمرّد على التاريخ العثمانيّ. في إسطنبول، الأمر يختلف. مَن يحكمها يقبض على روح تركيا، ومن يحكم تركيا ولا يحكمها تبقى زعامته موضوعاً للشك. ورقة التاريخ هذه تكمّلها ورقتان: واحدة اقتصاديّة ذات مردود سياسيّ. ذاك أنّ بلديّة إسطنبول منجم للعقود والتنفيعات وفُرص العمل يُمَنّ بها على الأنصار. وأخرى شخصيّة ونفسيّة مصدرها أنّ إردوغان باشر صعوده مع تولّيه رئاسة تلك البلديّة عام 1994. أمّا أن يتولاها المعارض الفائز إكرام إمام أوغلو فنذيرٌ بتكرار مسيرته التي قادته من زعامة المدينة إلى زعامة البلد. والزعيم شيء لا يتكرّر، خصوصاً إذا كان خصمه مَن يكرّره. إذن شابه إردوغان نفسه حين قضى موظفوه بإلغاء النتيجة وإعادة الانتخابات. لكنّ الفِعلة هذه، وبسبب وقوعها في مرتبة متدنّية من خطّ انحداريّ، قد تقصّر عمر فاعلها بدل أن تُطيله. والحال أنّ اللغة الشعريّة ربّما بدت أكثر دقّة من اللغة السياسيّة في وصف المسار الإردوغانيّ: إنّه الصعود إلى تحت؛ لقد تولّى رئاسة بلديّة إسطنبول فقدّم…

لا يكفي العداء للسُنّة كي يُبنى وطن

السبت ٠٥ أغسطس ٢٠١٧

للطوائف، كلّ الطوائف، وعيٌ ضدّيّ. إنّها تعرف هي ضدّ مَن. تعرف ذلك أكثر كثيراً ممّا تعرف ما الذي تريد. أو أنّ ما تريده هو بالضبط أن تكون ضدّ طائفة أخرى تُخضعها. قضيّتها إخضاع الآخر الطائفيّ. وهي تغطّي ذلك وتسوّغه بالكثير من الأدلجة القوميّة أو الدينيّة أو الاجتماعيّة. هذا كامن في تكوين الطوائف، لا فضل فيه لواحدة على أخرى. لهذا نادراً ما كانت اليد العليا، في أيّ منها، لوعي وطنيّ يغلّب التسوية مع سائر مكوّنات البلد كي يُبنى وطن. في 1989 تراءى للبنانيّين كثيرين أنّ لبنان جديداً وُلد. لكنّ هذا اللبنان قام بالضدّ من المسيحيّين. قام ضدّهم. استعيرت أغانيهم وأناشيدهم وقصائدهم في التغنّي بلبنان كي تُستعمل لإخضاعهم. بدا السنّة والشيعة والدروز متّفقين على تقسيم عمل ترعاه الوصاية السوريّة وينهض عليه لبنان الجديد: الاقتصاد والإعمار للسنّة والمقاومة للشيعة. المسيحيّون اصطدمت كلّ محاولة يحاولونها لتعديل هذا الواقع بابتزازهم: أنتم حلفاء إسرائيل. التخوين والتشهير شكّلا الأخلاق العامّة لمجتمع بلا أخلاق. لكنّ الاتّفاق كان مسكوناً بسمّ التهميش المسيحيّ، بل كان منخوراً به. لم يستطع الغطاء «القوميّ» الذي وفّره الأمن السوريّ أن يسدّ الفراغ الكبير. الغائب المهمّش ظلّ يقضّ مضاجع الحاضر. الخلاف بين الطائفتين المسلمتين الكبريين كان توأم الاتّفاق بينهما. بالتدريج، لم تعد المقاومة تتحمّل الإعمار ولم يعد الإعمار يطيق المقاومة. القُبَل تُطبع على الخدّ والسكّين…

نحن الذين لا وزن لهم في العالم

السبت ٢٤ سبتمبر ٢٠١٦

حسناً، نضع الأخلاق والقيم والمواثيق المُلزمة حيالها جانباً ونحصر همنا في المصالح، فسياسات الدول، وهذا ليس اختراعاً للبارود، تحركها المصالح أولاً وأساساً. والعالم، حتى إشعار آخر، مؤسس على دول. أما التحدي الذي يواجهه واقع الدول، إذا ما أخذنا في الحسبان «بريكزيت» من جهة، وحروب الهويات من جهة أخرى، فليس تجاوزه إلى ما هو أعلى منه، أي أكثر إنسانية وأخلاقية، بل الانتكاس به إلى ما هو أدنى، أي أقل إنسانية وأخلاقية. إذاً، ومن دون أوهام أو قياس على عوالم مفترضة أو طوباوية، لنتحدث في المصالح فحسب. فسورية، أي قلب المشرق العربي، تحترق على يد حاكم ونظام يندر أن يوجد ما يماثلهما في الوحشية. مع هذا، لا يحصل أي تدخل دولي لكفّ يدهما. لا «اليسار» يريد ذلك لأنه ليس تدخلياً، ولا «اليمين» لأنه ليس دولياً. لكن الوحشية لا يقتصر فاعلوها على نظام وحاكم، إذ هناك دولتان على الأقل، هما روسيا وإيران، تشاركان بهمة في إنزال هذه الوحشية بالسوريين، ومعهما عدد من المليشيات اللبنانية والعراقية والأفغانية. وما تفعله هذه الأطراف يوسع النفوذ الروسي- الإيراني في سورية وفي المشرق العربي تالياً. مع هذا، لا يحصل أي تدخل دولي لإنجاد السوريين، ولو كان ذلك مجرد ذريعة لصد النفوذين الروسي والإيراني. لا «اليسار» يريد ذلك ولا «اليمين». وما دام أن الغرب عموماً، والولايات المتحدة خصوصاً، هما…

ماذا نفعل بالنساء؟

الأربعاء ١٤ سبتمبر ٢٠١٦

يُخيّل للمراقب أن بلداننا، وفي موازاة حروبها الأهلية الكثيرة، تعيش حرباً دائمة على النساء. وكثيرون جدّاً من رجالنا، في قمم السلطة كما في قواعد المجتمع، محتارون: إنّهم ليسوا متأكدين تماماً مما ينبغي فعله بتلك الكائنات الفائضة عن الحاجة. في يوم واحد، رأى نائب لبناني اسمه إيلي ماروني، قد لا يعترف بأي دور للمرأة، بأن لها دوراً. هذا ما يُشكر عليه. لكنّ ما نسبه إليها هو أن «بعض النساء يعطين المغتصِب سبباً للاغتصاب». وعارض النائب المصري المدعو إلهامي عجينه، بمقدار من التخييل والفنتزَة يفتقر إليه زميله اللبناني، وضع قانون يجرم ختان النساء. أما السبب فارتفاع الضعف الجنسي عند الرجال، ما يوجب خفض التطلب الجنسي للمرأة! ولمناسبة ما تفضل به عجينه، أعلمتنا الأرقام بما يرقى إلى خوارق ومعجزات، بأن المختونات في مصر تتراوح نسبتهن بين 70 و90 في المئة من مجموع المصريات. في ذاك اليوم لم يُتحفنا الأردن برأي مرضي على غرار الرأيين اللبناني والمصري، لكنه آثر إتحافنا بفعل مرضيّ. فعبر «فايسبوك»، أطلقت الزميلة رلى أمين «نداء عاجلاً» تستجدي تنفيذ القرارات التي أصدرتها المحكمة الأردنيّة، حيث «اصطحب زوجي السابق محمّد عجلوني ابنتي دينا، 7 أعوام، في الزيارة المعتادة، وهو يمتنع عن إعادتها إليّ وفق ما ينصّ عليه قرار المحكمة، وتقول الشرطة إنّها لا تستطيع فعل شيء لمساعدتي». وكان التضامن الواسع والضغط الشديد…

قوافل اللاجئين وصورة الغرب الكريه

السبت ٢٠ أغسطس ٢٠١٦

منذ أواخر القرن التاسع عشر، بدأ مثقّفون عرب يهاجرون إلى أوروبا، أو يختارون منافيهم فيها. وفي باريس تحديداً، أسّس الأفغانيّ وتلميذه محمّد عبده مجلّة «العروة الوثقى» التي كان أبرز أهدافها، وفقاً لثانيهما، «صون استقلال الشعوب الشرقيّة من عدوان الدول الغربيّة، وإقلاق بال الحكومة الإنكليزيّة حتّى ترجع عن أعمالها المثيرة لخواطر المسلمين». واستمرّ تدفّق المثقّفين والمتعلّمين وطالبي العلم إلى فرنسا وبريطانيا، ولاحقاً الولايات المتّحدة. ومن هؤلاء، خصوصاً أبناء الأعيان المدينيّين والريفيّين، جاء كثر من صنّاع القرار في بلداننا. لكنّ هذه الهجرة التي كان لها الإسهام الأكبر في ما سُمّي «النهضة العربيّة»، لم تقدّم من المعرفة بـ»الغرب» ما يُذكَر. فما قيل فيه وفي تجربته لا يعدو كونه وصفاً إنشائيّاً وبرّانيّاً يصعب اعتماده مصدراً للفهم والتأويل. مع هذا، وفي صيغ مختلفة عمّا كتبه محمّد عبده، انجذبت رموز تلك النخب إلى هدف واحد تعلّمته في الغرب، هو المساواة. ولأنّ المذكورين صادرون عن أمم مستعمَرة، بدا الاستقلال الفوريّ بلا أيّ تدرّج شرطاً للمساواة. وبالطبع، كان لرياح ثورة 1917 الروسيّة أن عزّزت المطالبة بالمساواة والاستقلال الفوريّين. فحين صعد، في الثلاثينات، أقصى اليمين الأوروبيّ، المعادي للديموقراطية التي لم تتوطّد إلاّ في البلدان الاستعماريّة، تعاظم الطلب على مساواة واستقلال فوريّين يُنتزعان من أمم استعماريّة وديموقراطيّة في آن. وكان لهذا أن أضعف «الديموقراطيّ» في «الوطنيّ»، كما وطّد القطيعة بين…

لا رؤيا بعد اليوم…

الثلاثاء ١٦ أغسطس ٢٠١٦

في 2003 كان المحافظون الجدد الأميركيّون أصحاب الرؤيا العربيّة انطلاقاً من العراق. دعوتهم النبويّة كان مفادها التالي: أزيحوا صدّام حسين وأقيموا الديموقراطيّة في بلاد ما بين النهرين، يتحوّل العراق نموذجاً جاذباً لشعوب المنطقة التي تعثر، بعد طول انتظار، على خلاصها. تلك الدعوة الرساليّة حفّزتها أسباب وعوامل كثيرة ومتفاوتة. إلاّ أنّ أحدها كان بالتأكيد البحث عن الانسجام الذي يبحث عنه عادةً المؤمنون. ذاك أنّ الضجر إنّما بلغ أوجه من الشذوذ العالميّ المنسوب إلى العرب عن وجهة كانت قد بدأت تشقّ طريقها الكونيّ العريض، وجهة الديموقراطيّة. وكان من السهل تبيان ذلك بتعداد السنوات، ممّا يحبّه الألفانيّون: فصدّام وحزبه يحكمان العراق منذ 1968، وحافظ الأسد وحزبه، ثمّ ابنه، يحكمون سوريّة منذ 1963، ومعمّر القذّافي يحكم ليبيا منذ 1969، و «شرعيّة يوليو» معمول بها في مصر منذ 1952... لكنّ الضجر من وضع مضجر والحماسة للانسجام والتناسق لا يكفيان لإحلال الرؤيا محلّ الرؤية، والإيديولوجيا محلّ السوسيولوجيا، والخلاص المطلق محلّ الواقع باحتمالاته المحدودة. هكذا انفجر العراق وتكشّف أنّ ضيق ذات اليد لا يتيح طلب العلى على النحو الذي تراءى لطالبيه. المحافظون الجدد كانوا ثوريّين من الخارج أكثر ممّا كانوا محافظين. إلاّ أنّ ثوريّاً من الداخل كان قد سبقهم ببضعة عقود في التلويح باجتراح المعجزات. فمع جمال عبد الناصر بدت الوحدة العربيّة وتحرير فلسطين ودولة العدالة والمساواة…

الوطنيّة ليست تفويضاً مطلقاً

الثلاثاء ٠٩ أغسطس ٢٠١٦

في «العالم الثالث»، انبثقت أنظمة الحزب الواحد، معظمها إن لم يكن كلّها، من «النضال ضدّ الاستعمار»، أو ما بات يُسمّى «وطنيّة» في الأدبيّات القوميّة والراديكاليّة التي طوّرت معنى سلبيّاً محضاً للمفهوم هذا. وفي العالم العربيّ تحديداً، ربّما كانت الجزائر النموذج الأنصع عن هذه المعادلة: ذاك أنّ «جبهة التحرير الوطنيّ» التي أنجبت الاستقلال في 1962 لا تزال عمليّاً، وعلى رغم مرور 54 سنة، تحكم البلد. ولأنّ حرب الاستقلال كانت شرسة، اصطبغ حكم آباء الاستقلال بالشراسة نفسها، حيث أنّ الحرب الأهليّة التي اندلعت في التسعينات لم تزدْهم إلاّ اقتناعاً بجدوى تمسّكهم بالسلطة! أمّا في المشرق العربيّ، خصوصاً مصر وسوريّة والعراق، حيث خرج الاستعمار قبل أن يكون الراديكاليّون العسكريّون قادرين على بلوغ السلطة، فاستحوذ الأخيرون على «المسألة الوطنيّة» عبر ديناميّات ثلاث متكاملة: - شكّكوا بالجيل المدنيّ الذي جاء بالاستقلال، إذ هو «رجعيّ» و «ربيب الاستعمار»، - وأكّدوا أنّ الاستقلال «الحقيقيّ» ليس إخراجاً للاستعمار فحسب، بل مطاردة دائبة لمصالحه «الامبرياليّة» ولمصالح «أعوانه» و «عملائه» المحليّين، أي جيل الاستقلال، - وحين أقاموا دولة الحزب الواحد جعلوا الوطنيّة شيئاً لا يتحقّق ولا يبلغ مثاله المفترض إلاّ بحرب دائمة ومصيريّة مع «عدوّ» ما. وهذا طبعاً يستدعي تعطيل الحياة السياسيّة، كما أنشأها الاستعمار ثمّ طوّرها قليلاً الجيل الاستقلاليّ الأوّل. لقد قامت تلك النظريّة على فرضيّة أنّنا، في هذه…

توني بلير أم صدّام حسين؟

الثلاثاء ١٢ يوليو ٢٠١٦

كان توني بلير سياسيّاً سيّئاً وقائداً فاسداً. وهو، كما أوضح تقرير تشيلكوت، شارك في قيادة حرب قامت على الأكاذيب وامتهان القوانين، ولم تُعدّ العدّة ليومها التالي، كما انقاد ذيليّاً لجورج دبليو بوش «كائناً ما كان». هذا وغيره صحيح، وهو ما جاء التقرير ليكرّسه ويفصّله ويحوّله درساً للمستقبل، بما ينقّي الحياة السياسيّة البريطانيّة والعلاقات الدوليّة، حتّى لو لم يُحاكَم المرتكب بلير. هنا وظيفة التقرير. أمّا الاستقبال العربيّ لتشيلكوت ونتائجه فجاء تبرئة بديعة للنفس وللطائفيّة التي أنزلت بالعراق ما أنزلته، قبل حرب بلير – بوش وبعدها. ذاك أنّ الرواية العربيّة الضمنيّة، والمعلنة أحياناً، مفادها أنّه لم يكن في الإمكان أحسن ممّا كان إلى أن جاء بلير وجورج دبليو ودمّرا العراق. وما لا شكّ فيه أنّ حرب بوش وبلير زادت العراق خراباً، واستكملت التهديم والتفريغ اللذين بدأهما الحصار قبلها، كما أضعفت قابليّة البلد للإصلاح فيما سخّفت معاني محترمة كالقانون الدوليّ والديموقراطيّة. إلاّ أنّ اعتبار الحرب سبب الخراب العراقيّ فيعبّر عن خرافتين وطيدتين في الفكر السياسيّ العربيّ: أولاهما أنّ الاستبداد (الصدّاميّ هنا) لم يكن خراباً، والثانية أنّه يكفي لنظام عربيّ أن يتمكّن من الوقوف في وجه طرف خارجيّ (إيران أو إسرائيل أو...) لكي يُعدّ معافى وقويّاً، ونظام صدّام أحرز ذلك. بلغة أخرى، ما فعلته حرب بوش وبلير أنّها نقلت الكارثة العراقيّة، وبأسوأ الطرق، من…

موت نخبة

الثلاثاء ٢٨ يونيو ٢٠١٦

وصف فنّان بريطانيّ نتائج الاستفتاء الأخير في بلده بالتالي: رجل كان يعاني الصداع فأطلق النار على قدمه. بقي الصداع وأضيف إليه عطب القدم وألمه. الشعبويّون أطلقوا النار على القدم بتقديمهم حلولاً بائسة ومبسّطة لمشكلة قائمة. أمّا النخبة فهي التي تسبّبت بالصداع الأصليّ. صحيح أنّ الصفّ الذي يقف فيه نايجل فاراج وبوريس جونسون، ووراءهما دونالد ترامب ومارين لوبن وغيرت فيلدرز وفلاديمير بوتين هو الصفّ الذي ينبغي الابتعاد عنه. فالحقّ والحقيقة لا بدّ أن يقيما حيث لا يقيمون. لكنّ الصفّ الذي وقفت فيه النخبة التقليديّة، السياسيّة والاقتصاديّة والثقافيّة، هو ذاك الذي أتاح للصفّ الأوّل أن يحرز انتصاره الكبير الذي تلوح أخطاره على العالم بأسره. واليوم كيف يبدو مشهد هذه النخبة؟ رئيس حكومة بريطانيا ديفيد كامرون يعلن أنّه سيستقيل في تشرين الأوّل (أكتوبر) المقبل، ويُرجّح أن يخلفه بوريس جونسون، الصحافيّ السابق الذي طردته صحيفة «تايمز أوف لندن» من صفوفها لأنّه... كذّاب. قائد حزب العمّال جيريمي كوربن يواجه انتفاضة داخل حزبه لاتّهامه بالفتور في حملته للبقاء في الاتّحاد الأوروبيّ، فضلاً عن عدم امتلاكه المواصفات القياديّة التي تؤهّله لمواجهة التحدّيات التي تطرحها المرحلة المقبلة. أهمّ من هذا وذاك أنّ جميع القادة الحزبيّين، ما عدا نايجل فاراج، زعيم «استقلال المملكة المتّحدة»، كانوا في صفّ البقاء في أوروبا. مع هذا صوّتت الأكثريّة الشعبيّة، وفي عدادها محازبو هؤلاء…

مهزومون ومنتصرون

السبت ٢٥ يونيو ٢٠١٦

يوم أسود آخر. يوم تعيس آخر، لا لبريطانيا بل للحضارة والتمدن. يمين أوروبا المتطرف يضغط لإجراء استفتاءات مشابهة. دونالد ترامب يقترب خطوة من البيت الأبيض. الاقتصاد العالمي قد يكون في مهب العواصف. التخويف من المهاجرين ينتفخ. اللقاح بين الفكر المحافظ والأزمة الاقتصادية ينتج دائماً الأسوأ، والأسوأ هو ما رفعه الاستفتاء عالياً. هذا ليس لإثارة الذعر. إنه ما تعدنا به أكثرية البريطانيين الذين انتصر فيهم ما هو معتم على ما هو مضيء. القومية الضيقة الأفق انتصرت، وإن تغير معناها: لم تعد تطمح إلى وطن كبير ذي مدى حيوي. القوميون البريطانيون صوتوا لبلد أصغر، أي لبريطانيا التي سيؤدي الخروج من أوروبا إلى حرمانها اسكتلندا وإرلندا الشمالية، وربما ويلز. لكن الشرية القومية استمرت تحريضاً وتخويفاً وخلقاً لجو قُتلت فيه جو كوكس التي ذهبت دماؤها هدراً. القوميات باتت تستعير لسان الأقليات والإثنيات المطالبة بالحقوق والانفصال وحق تقرير المصير. وانتصرت البلدات على المدن، وخصوصاً على المدينة الكوزموبوليتية لندن المتشابكة مع العالم. حتى المدن الصناعية القديمة في الشمال، كمانشيستر وليفربول، التي قيل إنها متضررة من أوروبا والعولمة، صوتت، لأنها مدن كبرى، للبقاء. مَن هم دون الثلاثين انهزموا لمصلحة من هم فوقها. ثورة المعلومات والاتصالات، وفي غد قريب الثورة الروبوتية، كلها انهزمت. العزلة بوصفها نتاج الخوف من اللاجئين ومن الاتفاقات التجارية العابرة للحدود ومن التقدم التقني، انتصرت…

فقط لو لم يتحدّث أمين معلوف!

السبت ١١ يونيو ٢٠١٦

يسكن النظريّةَ المناهضة للتطبيع مخلوق غير ديموقراطيّ، بل عميق في استبداده: لا تصالحهم، لا تصافحهم، لا تحدّثهم، لا تترجمهم، لا تؤاكلهم، لا تشاربهم، لا تسمعهم إلخ... وهو منطق يحاذي الوعي الدينيّ ممثّلاً في وصاياه العشر، مع ما يفترضه من قصور في البشر، وحاجة إلى معلّم يهدي إلى صحيح السلوك وإلى الخطأ المودي بأهله إلى النار. إلاّ أنّه أيضاً يحاذي الوعي الدمويّ والقرابيّ: فبما أنّ الدعوة موجّهة إلينا كعرب، وبما أنّنا مُطالَبون كلّنا بموقف واحد في القطيعة، فهذا ما يدرجها في خانة القَبَليّة، بمعناها الدقيق. فنحن علينا «كلّنا»، وقد تساوينا في الموقف والنيّة والإرادة والذوق، أن نقف في مواجهة «كلّهم». والانقسام شامل ومطلق يتعدّى السياسة: فالكلام معهم ممنوع ولو في شؤون الطبخ أو في رصد العوامل المناخيّة في حوض المتوسّط. والحال أنّ المسألة لم تكن على هذين القبليّة والإغلاق إبّان ذروة الصراع في الستينات، وإن أسّست تلك الحقبة لماهويّة الصراع المفترضة. لكنّ عناصر ثلاثة على الأقلّ جعلتها هكذا: فقد صعد الثقافيّ (هويّة، استشراق...) على حساب السياسيّ والاقتصاديّ (حدود، دول، إمبرياليّة، تنمية...)، فيما تزايد وزن الوعي الإسلامويّ في مُجمّع الوعي المناهض للصهيونيّة (والإسلاميّون أكثر من ترجم برداءة أعمال اللاساميّة الأوروبيّة)، وأخيراً، وفي لبنان وسوريّة تحديداً، حصل تلاقح غير مسبوق مع نظريات القوميّين السوريّين (مساواة اليهوديّة والصهيونيّة، الخصوم هم «يهود الداخل»، «حرب وجود…