الأحد ٠٧ نوفمبر ٢٠٢١
كنت في صدد وضع سلسلة من الزوايا حول المرأة عند العرب. أو نساء العرب. وكيف كانت النظرة إليها عند قدمائهم. واكتشفت سريعاً أن هناك أطناناً مما كُتب في هذا الباب منها ما يُنشر ومنها ما لا يُنشر، ومنها ما لا يُقرأ مهما كان الإنسان متقدماً في السن أو في القراءات أو في النضوج. ولعل قدماءنا الأعزاء كانوا بين الأكثر إباحية في الشعوب. لكن ضع هذا الجانب جانباً، وسوف يظل للمرأة اهتمام كبير، خصوصاً عند الكبار من الأدباء. وسوف تجد بحثاً كثيراً ووصفاً ثرياً لخصائص المرأة عند الجاحظ وابن حزم الذي ترك لنا، في أشهر ما ترك، كتاب «طوق الحمامة»، إضافة إلى أربعمائة مؤلف آخر. أما كيف وجد الوقت والعزم والصبر على كل ذلك، فالمرء لا يستطيع أن يستوعب كل هذه الغزارة والتنوع. وقد أذهل هذا الأندلسي قراءه الإسبان، فيما أذهلهم المسلمون الآخرون خلال ثمانية قرون من الإبداع والفكر والفنون والفلسفة. ولولا بلاغة الجاحظ لخُيل إليك أن ما تقرأه دليل عن أدلة جمعيات ملكات الجمال، وليس نصاً أدبياً من نصوص العصور الأولى. ويبدو، خلافاً للأدباء الآخرين، أنه كان مختلف الذوق في نظرته إلى مقاييس الجمال. وقد انتقد التشابيه التي لجأ إليها مجايلوه. واتفق مع الذين قالوا إن المرأة الأجمل هي «المجدولة»: «ورأيت أكثر الناس من البصراء بجواهر النساء الذين هم جهابذة…
الإثنين ١٨ أكتوبر ٢٠٢١
في كتابه المرجعي عن لبنان، يروي الصحافي الأميركي (من أم لبنانية) شارل غلاس، (قبائل لها رايات)، حكاية سياسي لبناني قدم له نسخة من جريدة عمرها عشر سنين، لم يتغير في عناوينها وأخبارها شيء. صدر كتاب غلاس عام 1990. وإذ أقرأ أخبار بيروت، أشعر أنه لم يتغير شيء منذ 50 عاماً على الإطلاق: مَن نَصَب الكمين. من دخل منطقة الآخر. من بدأ إطلاق النار. من عبأ الساحة السياسية لكي تتفجر الساحة العسكرية. وهل هي «جولة أولى» تليها «جولات»، تليها حرب، والله أعلم، أم أن المتاريس والحواجز والقناصين والجدران المليئة بتهديدات «أبو الجماجم» لن تعود لتدمر بيروت، لطرابلس، فصيدا، فالبلد؟ الحقيقة أن الحرب التي بدأت في عين الرمانة 1975 لم تنته. حدث مجرد تغيير في المواقع، وبقيت الأسماء واحدة إلا من وافاه الأجل. وسوف يكتشف شارل غلاس عندما يقرأ صحيفة هذا الصباح أن الجنرال عون أصبح رئيساً، ولكنْ ممثلاً الفريق الذي كان يطلق عليه المدافع، وأن الدكتور سمير جعجع لا يزال عدواً لعون ولفريقه، وأن «عين الرمانة» كانت في هدنة كاذبة بين قبائل أخفت أعلامها خلف علم الدولة، من دون أن تخفي لحظة نيّاتها. الجديد الوحيد في الأمر هو «حزب الله» الذي ظهر ليحل محل جميع القوى التي كانت تضمها «الحركة الوطنية» التي تلاشت من قواها تدريجياً أمام تجمع جديد هو «الممانعة».…
الأحد ٢٦ سبتمبر ٢٠٢١
من اليوم، أو بعد اليوم، سوف تكون ألمانيا، وربما أوروبا، وربما العالم، من دون أنجيلا ميركل. عندما أصبحت مستشارة قبل 16 عاماً، كان قلائل يعرفونها. وهؤلاء أيضاً لم يكونوا يعرفون، أنها سوف تعبر من ألمانيا الشرقية إلى ألمانيا الغربية، ومن برلين الشرقية إلى برلين الأخرى، ومن برلين إلى سدة التاريخ السياسي، إلى تاريخ الإنسانية. أنسَت ميركل الألمان أنهم جعلوا هتلر مستشاراً لهم. وأنسَت العالم أن مستشار ألمانيا كان هتلر. وفتحت أبواب الاتحاد من الشمال إلى الجنوب لمليون سوري، يطلق البعض على مواليدهن اسم أنجيلا. أو أنجي. أو الأم ميركل. الفراو ميركل أقل شهرة من ديانا سبنسر. والآن من السيدة ويغان. ومن جاكلين كينيدي. لكن هناك جمال للتاريخ والحياة، وهناك جمال للمساحيق والمصورين وزوايا السطحيات في الصحف. ومارغريت تاتشر كانت سيدة سياسية عظيمة من اللاتي غيَّرن في التاريخ، لكن ظلَّ ينقصها مليون لاجئ مسلم لكي تكون أنجيلا ميركل، المثال النسوي الأعلى. غداً عندما يقولون جسيندا أردرن في نيوزيلندا يقولون كأنها ميركل. وعندما يقولون، سانا مرنيلا مارين في فنلندا، يقولون كادت تكون ميركل. وعندما يقولون هيلاري كلنتون، يقولون لم تعرف أن تكون ميركل. أهمية ميركل أنها لم تطالب بحقوق المرأة. ولا بحقوق الرجل. عملت من أجل حقوق الإنسان. ساوت الألماني الشرقي بالغربي، وساوت بهما اللاجئ السوري. وساعدت اليونان المفلسة. وقبلها روسيا المنهارة.…
الإثنين ٠٦ سبتمبر ٢٠٢١
كان طه حسين قد فقد بصره في الطفولة واستعاض عنه بشبكة هائلة من الأحاسيس. وإذا كان لا بد لنا من معرفة سر مي زيادة في التعلق الروحي بها من عمالقة مصر، فهذا وصف طه حسين لها: «كان الصوت نحيلاً ضئيلاً. وكان عذباً رائعاً. ويبلغ السمع حتى ينفذ منه في خفة إلى القلب، فيفعل فيه الأفاعيل». عميد الأدب العربي كان واحداً من رواد ندوة الثلاثاء. ومعه كان عباس محمود العقاد، وعبد الرزاق السيد، وولي الدين يكن، و«باحثة البادية» ملك حفني، ورائدة الحركة النسائية هدى شعراوي، والشاعر إسماعيل صبري باشا، وأمير الشعراء أحمد شوقي، وشاعر النيل حافظ إبراهيم، والدكتور فؤاد صروف، والشيخ محمد رشيد رضا، صاحب «المنار»، ومصطفى صادق الرافعي، والدكتور حسين هيكل باشا، ومواطنها أمين الريحاني، وغيرهم. كيف تجتذب امرأة من لبنان اعظم أسماء مصر في عشرينات القرن الماضي، إلى منزلها، وتتولى هي إدارة النقاش الفكري فيما بينهم، وتترك في «قلب كل منهم أثراً أو لوعة»؟ ألم يُقل إن «سارة» العقاد ليست سوى «الآنسة ميّ»، وإن الشيخ مصطفى صادق الرافعي قد هام بها، فيما كانت هي تبثّ هواها بكتابة الرسائل إلى جبران خليل جبران، حبها الوحيد الذي لم تره في حياتها. كأنما كانت العشرينات لا تزال امتداداً للحب العذري الذي ساد في الجاهلية. جمعت الآنسة مي إلى عذوبة الحضور، الثقافة…
الإثنين ٣٠ أغسطس ٢٠٢١
كان كبير العرب يقول إن الصحافيين يستسهلون ذم جميع الناس، وإذا ما انتقدهم أحد، أو شكا من افتراء أحد، أقاموا الدنيا وأقعدوها. وكانت حروب الصحافيين فيما بينهم كثيرة، كما كانت الأكثر حدة وقساوة، وأحياناً بذاءة وردحاً. وأقصد هنا الصحافة «الشرعية»، أي «المسؤولة»، وليست المطبوعات الموسمية الصادرة بهدف الابتزاز والشتم والتهديد والاستخدامات الأخرى. وهذه تنمو كما ينمو الفطر السام إلى جانب الفطر الطبيعي، يحذر ولا يُقرب، ويختفي في غفلة كما ظهر. لكن حتى في الصحافة «الشرعية» نفسها، كانت المعارك مستويات، لمعات ذكية أو حجارة، سخرية أو فطنة، أو بدائية وثقل دماء. حدود بلا حدود. ضمن «قانون المطبوعات»، أو خروجاً عن كل قانون. ثمة حروب قامت وغطاها غبار السنين، ومنها ما بقي في ذاكرة المهنة، يتناقله أهلها الجدد، على أنه جزء من آدابها وتراثها. إحدى أشهر تلك «المعارك» كانت من جانب واحد بين عميد «دار الصياد» وعميد الفطنة الساخرة سعيد فريحة، وبين الصحافي المقدسي ناصر الدين النشاشيبي. كان سعيد فريحة بارعاً وتلقائياً في صنع الصداقات، وكانت للنشاشيبي موهبة فائقة في صنع الخصومات والعداوات، في مرارة وقسوة. وكانت صداقاته لا تدوم أكثر من «مشوار الطريق» وعداواته بقيت، رحمه الله، من بعده. كان سعيد فريحة صاحب موهبة نادرة ورجلاً متواضعاً، يشير إلى نفسه باسم «غريب الديار»، وكان النشاشيبي بلا موهبة خاصة أو حب للمهنة…
الخميس ١٩ أغسطس ٢٠٢١
آخر الأحداث الكبرى هذا العام، كان من دون شك، التحول المذهل في أفغانستان، ومن ثم إعلان السيد أمر الله صالح نائب الرئيس أشرف غني أنه (أي أمر الله صالح) لا يزال الرئيس الشرعي للبلاد. بالتوفيق. فهي مهمة غير سهلة. تكثر في الحالات القصوى، القصص التي تختلط فيها المأساة المبكية بالمهزلة المضحكة، ولنسمها، للاختصار؛ «المأزلة» دمجاً بين حالتين متناقضتين. وشهد العام الراهن أحداثاً عدّة، بعضها عادي روتيني، مثل انتخابات الرئاسة في أميركا، وقانون التمديد لفلاديمير بوتين حتى العام 2036 (ابتداءً من هذا العام، وليس منذ توليه في 7 مايو - أيار 2000). وبدأ خروج بريطانيا من ضلعها الأوروبي، ووقع في مرفأ بيروت ثالث أكبر انفجار غير نووي في التاريخ، وأعلن البنك الدولي أن ثلث اللبنانيين ينامون بلا عشاء، وأن لبنان يشهد ثالث أسوأ أزمة اقتصادية في العالم منذ القرن التاسع عشر. الحدث الأكثر أهمية في التاريخ قد يحدث فيما تقرأ جنابك هذه السطور (وسَّع الله عليك) ويخرج الرئيس المكلف نجيب ميقاتي من قصر بعبدا ليعلن أنه اتفق مع رئيس الجمهورية، على وزراء الداخلية والشؤون والبلديات وشؤون الرئاسة والزراعة. أما كيف استطاع نجيب ميقاتي أن يقنع رئيس الدولة وحامي دستورها بأن الوقت قد حان لأن يرى لبنان حكومة تمثل طموحاته (الرئيس) وحرصه (الرئيس) على الميثاقية، فأمر يعود على الأرجح إلى ما…
الإثنين ١٦ أغسطس ٢٠٢١
ألم تكن أقوى قوة استخبارية في العالم، وتعرف ماذا سيحصل في أفغانستان بمجرد الإعلان عن نية أميركا في الخروج منها؟ ألم تكن تتخيل المشهد الذي سيبدأ في رسم نفسه فوق تلك الخريطة الوعرة في طبيعتها الصخرية، وطبيعتها البشرية، وطبيعتها السياسية؟ وجدت أميركا نفسها بين خيارين: البقاء في أفغانستان، ضد رغبة أكثرية الأميركيين وأكثرية الأفغانيين وأكثرية العقلاء في العالم. أو أن تخرج وتتحمل تبعات الانسحاب التي هي عادة، أصعب بكثير من تبعات الاحتلال. في الدخول أو الخروج، الأثمان الأخلاقية والإنسانية والعسكرية والمعنوية، التي تدفعها أميركا، باهظة جداً. لا هي نزهة في الإياب. أما الثمن الأغلى فيدفعه في الحالتين، «المتعاونون» أو «الخونة» الذين تعاملوا مع المحتل. وهؤلاء هم طبقة من المواطنين الذين لا حول لهم ولا قوة، خاسرون إن قبلوا هذا الفريق أو ذلك. منبوذون هنا الآن أو لاحقاً هناك، وهاربون من المنتصرين، في هذا الاتجاه أو المعاكس. في لؤم ودم بارد، يكرر التاريخ نفسه. الأميركيون يواصلون المفاوضات مع «طالبان» في قطر، ويبدأون الانسحاب من سفارتهم في كابل. ولم تعد «طالبان» تستخدم السلاح في حملتها الضارية، وإنما السلاح الأشد ضراوة: انهيار معنويات الخصم والمسارعة إلى رفع رايات الاستسلام. لقد انتهى الأمر، والعالم يرى أمامه المشاهد الأخيرة ولا يصدق. إنهم على أبواب كابل. تلك الأبواب التي تبدلت عليها الوجوه والرعايا والقادمون والهاربون. وماذا…
السبت ٠٧ أغسطس ٢٠٢١
يعلن الصيف في باريس ولندن عادة عن الطبقات الغنية حديثاً في البلدان الأخرى. عندما جئنا للعاصمة البريطانية أواخر السبعينات، كان عرب الخليج، بثيابهم التقليدية، يملأون الهايد بارك وساحة البيكاديللي وفنادق سلون ستريت. وبعد سنوات طافت لندن بالروس، قامات ضخمة للرجال، وقامات ساحرة للنساء. ثم أطلت قوافل آسيا: الصينيون الجدد، واليابانيون الضاحكون أبداً مثل إعلانات معجون الأسنان، ثم وصل آخر المزدهرين الكوريون الجنوبيون، فيما جيرانهم في الشمال منهمكون في إطلاق الصواريخ. كنت تعرف العرب من لباسهم، أو من سيارات أبنائهم، والروس تعرفهم من وريثات كاترين العظمى التي جاء بها القيصر من ألمانيا لتطوير الجنس الإمبراطوري. لكن كيف لك أن تميز الإخوة القادمين من الصين واليابان وسنغافورة وتايوان وسائر سكان القارة؟ وليس هنا من سيارات عربية تطلق صوت محركاتها عند منتصف الليل عند تقاطع نايتسبريدج ولا من قامات روسية من سلالة كاترين، عظيمة الروس؟ وجوه متشابهة، لها عيون موحدة القياس، وأجسام ناحلة موحدة القوام، وانحناءة واحدة كأن الإمبراطور آتٍ ليلقي على الجميع السلام. لا ضرورة لأن تعرف شيئاً ولا أحداً. هؤلاء الآسيويون لا يتعرفون على أحد ولا يخالطون أحداً. ومثل اللبنانيين يكونون في لندن ويبحثون عن صحن حمص. أو مثل المصريين يسكنون في الدورشستر ويطلبون للفطور صحن فول. وعاش الراحل الشقي محمود السعدني في لندن فترة طويلة من دون أن يغير شيئاً…
السبت ٢٤ يوليو ٢٠٢١
أمتع ما يروى من القصص في العالم، حكايات النجاح. أو العصاميين. أو «صانعي الذات»، كما يقول الغربيون. وإن الرئيس رفيق الحريري يعترض على تسميته بالعصامي، بعدما أصبح أغنى رجل في تاريخ لبنان، عائداً من الرياض، حيث بدأ العمل بستمائة ريال في الشهر. سبب اعتراضه «المتوتر» أحياناً، أن «العصامية» تلغي دور الوالدين وأفضالهما والبر بهما. وهو كان يفاخر بأن والده كان يعمل في صيدا، قطاف برتقال في بساتينها الكثيرة. وكان رفيق، مساعده في المواسم. وشاري البساتين فيما بعد، لا يريد أن ينكر على والده قدسية الأبوة الشقية. تجد فيضاً من حكايات النجاح في الجزيرة العربية، التي كانت في مرحلة سابقة، رمز المحل وأصبحت، فيما بعد، موطن الازدهار، وأرض الذهب، وملاذ الملايين من قاصدي وطالبي الكفاية. وكما يحدث في النفوس الصغيرة في أي مكان، قامت فئة من المتخلفين تقول «إن النفط نقمة لا نعمة». كنا نتناقش مرة في إحدى الحلقات الصغيرة، عندما اختلف الدكتور عثمان الرواف مع أحد الحاضرين اختلافاً حاداً. وبما أنه خالص الأدب والتهذيب، ولا يسلط لساناً على أحد، فقد التفت نحوي بكل جدية وقال: «أعرني هويتك اللبنانية بضع دقائق لكي ألقن هذا الرجل درساً لا ينساه». وقد نبهني بذلك إلى السلاح السري الذي أحمله. ومن يومها، كلما قال صديق عربي أو لبناني، سقى الله أيام العدس والبصل مع الزيتون،…
الأربعاء ١٤ يوليو ٢٠٢١
هناك دول لا تعرف الهدوء في تاريخها، لأن قدرها جعلها على مفترقات الأمم وشهوات الغالبين، إما لأسباب جغرافية، أو طمعاً في ثرواتها. لكن أفغانستان بلد جبلي صخري معقد وصعب وفقير، ومع ذلك، قامت فيه ومن أجله حربان شنتهما أقوى دولتين في التاريخ: حرب الاتحاد السوفياتي من أجل الحؤول دون هزيمة الشيوعية، وحرب الولايات المتحدة من أجل المد المتطرف، مرة معه، مرة ضده. في الحالتين، هزمت الطائرات والمقاتلات، أعتى قوة غربية وأقوى قوة شرقية، والقبائل البدائية تقرئكم السلام. وبعد أيام يخرج الأميركيون وعلى أفواههم سؤال واحد: لماذا جئنا، ولماذا جاء السوفيات، وهل تستحق بضعة صخور في كابل حربان استمرتا نصف قرن، وانتهتا قبل أن تعرف الدوائر العسكرية في موسكو أو واشنطن، خريطة عبور ممر خيبر؟ طبعاً قرار جو بايدن لا نقاش فيه. فلو استمرت الحرب 20 عاماً آخر لظلت النتائج كما هي، سوف تدفع أميركا مائة مليار دولار للحصول على قطعة أرض صخرية في الجبال، لا تساوي عملياً ألف دولار بالعملة المحلية أو بالعملة اللبنانية. لا أحد يعرف تماماً حجم المليارات التي أحرقتها أميركا في أكثر بلاد الأرض وعورةً وفقراً. لكن الجميع يعرفون، أن البشرية شهدت هزيمة الأقمار الأميركية والجحافل السوفياتية في أكثر الحروب عبثية: مجموعة رعاة معتادين البرد والجوع، يكسرون الاستراتيجيا والعلم وأكبر قاصفة في الدنيا، كانت أول شيء حمله…
الأحد ١١ يوليو ٢٠٢١
قيل «ربّ أخٍ لك لم تلده أمك»، لأن العمر يضعنا في مودات أعلى من الصداقة وأقل من صلة الرحم. وتتضمن هذه المرتبة من العلاقات جميع أشكال المودة، وتتعمق مع العمر، ولا ترتبط بزمان أو مكان أو أي شرط. والفارق المهم بينها وبين أخوة الرحم، أنها اختيارية لا قدرية، وخاضعة للتجارب، ومقوّاة بامتحانات الصمود. لي في الحياة أخوة كثيرون. جميعهم أفضل مني في حفظ المودات. وهم من هويات كثيرة، ومن بلدان كثيرة، ومن طباع مختلفة وانتماءات متعددة وصفات عدّة، يضبطها جميعاً موقف واحد من مستوى القيَم. ولا يهم إطلاقاً اختلاف المشاعر السياسية أو الوطنية أو القومية أو الاجتماعية. إذا كان لها من وجود، لأنها دائماً أدنى أهمية من المودة نفسها. في جدة، قبل أيام، جاء إلى طاولتي في مطعم الفندق رجل وقور يعرِّف نفسه بجديّة خالصة: أخوك الذي لم تعرفه بعد، سليمان السعيد! وفهمت من الاسم فوراً أنه أخو الدكتور عبد الرحمن وأحمد. وأمضينا ذلك المساء نتحدث في قضايانا كلها. وكأنما «أبو حمد» ترك بيروت للتو، وكأنني وصلت من القصيم قبل دقائق. لم تكن هناك أي غربة أو ظلال غربة بين رجل قادم من قلب المملكة وآخر قادم من قلب لبنان. وغالباً ما نلتقي، أبا محمد (عبد الرحمن) وأبا خالد (أحمد)، في نيويورك أو لندن أو القاهرة أو بيروت، أو الرياض،…
الخميس ٢٤ يونيو ٢٠٢١
لا بأس إن أنا كررت على الدوام أنني أعرف هذه المنطقة منذ عام 1963. ليس ذلك من باب عادات المسنين في أنهم ينسون ما قد قالوا وكتبوا وكرروا، بل بداعي الافتراض أن جيلاً آخر قد بزغ، وأنه من المحتمل أن يكون من قرّاء هذه الزاوية، ولأن لكل مقام مقالاً، كما قالت العرب، فلا بد من المقارنة. والمقال الأول كان من الطائف صيف 1963. عشية القمة العربية الأولى من ذلك الزمان. وكانت لا تزال للقمم وعودها، وللأمة أحلامها، ولا هدّتها هزيمة ولا أهدرت كرامتها حروب الإخوة والأشقاء، إضافة إلى الأعمام والأخوال، كما قال عنترة، وفي الإمكان أن تضيف إليهم اليوم، الأحفاد وما يليهم. أذكر وأتذكر دوماً صيف 1963، كشاهد شخصي ومهني. بين الذين كتبوا عن توارد السنين وتكاثف التقدم، لعلني الصحافي الأكثر متابعة. ولعلني بين الصحافيين العرب ما يسميه الغربيون Senior بكل لياقة واحترام للتقدم في السن، فيما يصر إخوانك على «المخضرم»، أي من ولد في الجاهلية وأدرك بالإسلام. ولم نعثر منذ ذلك الوقت على عبارة خالية من الخضرمة، وصافية، ورائقة، وحسنة الوقع، وخالية من آثار الجاهلية. كل هذا الثبت من أجل أن أقول إن ما يجري ويتحقق على مدى هذا الأفق الوسيع، يعني لي غير ما يعني لسواي. والتميّز الوحيد هو السن. أو الخضرمة. وهو أن من عرف الكويت والطائف…