سمير عطا الله
سمير عطا الله
كاتب لبناني

تُهاجر… تَهجُر أيضاً

الأربعاء ٠٩ يونيو ٢٠٢١

أقرأ دائماً عن الطيور لأنها عالم غريب يحيط بنا. لا نعرف عنه شيئاً. وأيضاً من أجل أن أحسن التصرف مع بعض الضيوف اللطفاء الذين يثابرون على زيارة الحديقة. زيارات خفيفة، سريعة، ودائماً ملحنة ومغناة. وفي أحيان كثيرة لغايات واضحة: تناول الفطور أو الغداء على شجرة «أكيدنيا» أو رمان، أو بعض الحبوب المنزلية. وقد ألفت العصافير أمان الحديقة، فصارت تبني أعشاشها في أغصان الشجر، حاملة القش، على الأرجح، من حقل قريب. لا يأتينا سوى ثلاثة إلى أربعة أنواع من هذا الخلق المفرح، ولا نعرفها بأسمائها، بل بأصواتها. الصغير منها، ألحان ألحان وألوان ألوان. والكبير منها مكفهر ملهي بالبحث عن زاد وبذور. غير أن العلماء أحصوا حتى الآن 11000 نوع من الطيور، كثير منها أكثر ذكاء من الإنسان. ومعظمها طيور مهاجرة، تلاحق الشمس والدفء في الشتاء، ولها ذاكرة عجيبة في معرفة الأمكنة التي خزنت فيها بذورها، وتذكر «محطاتها» البرية في الذهاب وفي الإياب. أنواع كثيرة من الطيور أصبحت تتحاشى التحليق في أجواء لبنان، حيث يخرج عليها اللبنانيون برشاشات الكلاشينكوف للتمتع بقتلها، مع أن لحمها لا يؤكل. وكنت أعتقد أنها عادة لبنانية حصرياً، لكنني قرأت أنها توحش عالمي، خصوصاً في حوض المتوسط، وخصوصاً مصر ولبنان ومالطا وقبرص. كل عام يذهب ضحية هذه الهواية السادية 500 مليون طير. تعرف الطيور خرائط عالمها أكثر من…

احذروا التقليد

الخميس ٢٧ مايو ٢٠٢١

يقول المثل الإنجليزي: «العادات القديمة تموت في صعوبة». الطريقة التي يعامل بها الرئيس الروسي فلاديمير بوتين، تشبه إلى حد بعيد معاملتهم أيام الحقبة السوفياتية. ومعظم دول أوروبا الشرقية تخلّت عن الأساليب القديمة، إلا نظام رئيس بيلاروسيا (روسيا البيضاء)، فما زال متمسكاً بأسلوب القمع المطلق، ولكنه تجاوز جميع أنداده ومنافسيه عندما أمر في 23 مايو (أيار) الحالي بهبوط طائرة آيرلندية مدنية إرغاماً في مطار عاصمته مينسك، لكي يعتقل أحد ركابها؛ المدوّن المعارض رومان بروتاسيفيتش ورفيقته. احتجت أوروبا. وزادت العقوبات على المنظومة الحاكمة في بيلاروسيا. ومنعت طائراتها من استخدام أجواء روسيا البيضاء بعد اليوم. وماذا بعد؟ مجموعة استنكارات من رؤساء الجوار وبلاد البلطيق. ومجموعة مواقف مماثلة لتلك التي صدرت يوم اعتقل المعارض الروسي أليكسي نافالني لحظة عودته إلى موسكو. المهم في كل ذلك أنه لا يحق للرئيس ألكسندر لوكاشينكو أن يدعي الريادة في هذا السلوك الأخلاقي: إجبار طائرة مدنية، مسافرة من بلد إلى آخر، على الهبوط في عاصمته تحت التهديد بالقصف، وإرسال طائرة «ميغ29» «لمرافقتها». جديد؛ أخونا ألكسندر على هذه الصنعة. نحن، في عام 1971، منذ نصف قرن على وجه الضبط، سجلنا اختراع الفكرة النبيلة. كانت آنذاك حقبة الضباط من رتبة ملازم. وما لبث الملازم أن أصبح عقيداً وزعيماً وقائداً ملهماً، وحاكماً مطلقاً لاثنين وأربعين عاماً. وكان طبيعياً أن تقوم «أخوية» طبيعية…

رابحون وخاسرون في غزة

السبت ٢٢ مايو ٢٠٢١

مَن الذي خرج رابحاً من جولة القتال الأخيرة بين غزة وإسرائيل؟ على الأرض لا يصح القياس بمعيار الربح والخسارة. من ناحية استطاعت «حماس» أن تطلق 4 آلاف صاروخ على الداخل الإسرائيلي، ومن ناحية أخرى، ألحقت الآلة الجوية الإسرائيلية دماراً هائلاً بالقطاع وأهله. لكن على الصعيد السياسي ربحت «حماس» معركة الإعلام والتعاطف الدولي. هناك رابحون وخاسرون أيضاً في الميدان الدبلوماسي: عادت مصر إلى مقامها العربي التاريخي بعد الدور الذي لعبه الرئيس السيسي في ترتيب وقف إطلاق النار بعد 11 يوماً من العنف، وهو الدور الذي شكره عليه الرئيس جو بايدن. وجو بايدن خرج رابحاً بالضغط على إسرائيل من أجل الهدنة التي تحققت من خارج مجلس الأمن، أي من دون الحاجة إلى روسيا والصين. عادت مصر من خلال أدائها السياسي، وواجبها العربي، في إسعاف ضحايا غزة، وموقعها الأخوي في تخصيص 500 مليون دولار مساعدات للقطاع. والجميع يعرف أن الاقتصاد المصري ليس اقتصاد تبرع ومساعدات. كانت عودة الدور المصري قد بدأت تدريجياً منذ فترة، لكن حرب الصواريخ حسمت العودة مرة واحدة، وأعادت الأشياء إلى مواقعها، وذكّرت العرب بحجم الخطأ السياسي والاستراتيجي والقومي عندما قرروا «طرد» مصر، ليس فقط من الجامعة بل من حياتهم، غير مدركين مدى الأثر على مدى أهمية وفاعلية الدور المصري في وجودهم المعنوي والقومي. من أعداد الصواريخ يبدو بلا أي…

الوزير المتحضِّر و«البدو»!

الأربعاء ١٩ مايو ٢٠٢١

القاعدة العامة أن الناس في الدول الطبيعية تقرأ صحيفة واحدة، أحياناً مدى الحياة. الأكثر اهتماماً، يقرأون صحيفتين. اللبناني عليه أن يقرأ جميع الصحف لكي يقرأ جميع الآراء، لكي يعرف جميع النوازل، لكي يعرف مصير الجميع. والقارئ في أنحاء العالم يفتح صحيفته في حماسة وتفاؤل، في لبنان يفرد صفحاتها خائفاً، متوجساً ومذعوراً: ماذا حدث اليوم؟ من قال، وماذا قال - خصوصاً - يريد أن يقول. وكل شيء في لبنان متوقع: القول والقائلون والقوالون. وزير الخارجية، شربل وهبة، مفاجأة المفاجآت. قال معاليه؛ مسؤول الدبلوماسية اللبنانية في هذا الزمن، ما خلاصته أن السعودية والخليج أرسلوا إلى بلاده الدواعش، وكذلك إلى نينوى. وانتقد وهبة حياة «البدو»، ساخراً منها. يميز وهبة بين حياتنا وحياة «البدو». مثلاً: الدينار الكويتي يساوي 5.077.35 ليرة لبنانية متحضرة. مثلاً: نسبة البطالة في لبنان المتمدن 60 في المائة، عند بدو السعودية «صفر». مثلاً: 25.6 مليون مسافر في مطار دبي هذا العام بعد انخفاض الرحلات بنسبة 70 في المائة بسبب الوباء. معدل الرحلات الآن 2000 في اليوم. بدو. معالي شربل وهبة يعبر عن رأيه الشخصي، كما أعلن القصر الجمهوري تستّراً على الكلام الذي وصفته «إليسا» بالغباء. وهذه أول مرة ربما في التاريخ يقال عن وزير خارجية إنه يمثل نفسه. طبعاً اللبنانيون يعرفون ذلك ولا حاجة إلى تذكيرهم. وكلام وهبة لم يفاجئهم. ومنذ…

إحياء القضية

الأحد ١٦ مايو ٢٠٢١

كلما بدا أن القضية الفلسطينية قد خبت حول العالم، يأتي من يعيدها إلى الأذهان والضمائر. الشهيد كمال ناصر كان يقول في سخريته المعروفة: سوف تبقى القضية حية. اتكلوا على القومية الإسرائيلية. «التفوق» الإسرائيلي قادر على الغباء هو أيضاً. الشديد منه كذلك. ألهبت حكومة نتنياهو مشاعر المسلمين حول العالم وهم يستكملون رمضان ويدخلون العيد. ومِن أين؟ من القدس والمسجد الأقصى. وبذلك لم تتحد كالمعتاد الكرامة الفلسطينية، بل كرامة الفلسطينيين الأوائل الذين يُسمون بكل جلافة «عرب إسرائيل». وهكذا وقفت إسرائيل على حافة «حرب أهلية» في مدنها الرئيسية. بعد غياب طويل عادت المظاهرات المؤيدة للقضية إلى مدن أوروبا وأميركا. تذكر الضمير العالمي أن في الشرق الأوسط شعباً خُطفت أرضه وتُرك بلا دولة. وتذكر أن الاستيطان والترحيل وتدمير المنازل سياسة قائمة. ورأى العالم أن الأنظمة العربية ليست وحدها من يرمد بيوت الناس ويقصف السكان من الجو بأعداد مذهلة من الطائرات. قلب نتنياهو وحكومته «الطاولة» على الإسرائيليين أولاً. أوقف مسار «التطبيع» الذي بدا متسارعاً في الآونة الأخيرة، وبدد آمال المتفائلين بالسلام. وللمرة الأولى يتنبه العالم الخارجي إلى مسألة كان يحاول تجاهلها، هي الوجود العربي الكبير داخل فلسطين الأولى. فهؤلاء ليسوا مجرد نواب في الكنيست، بل هم أيضاً بشر وأرواح ومشاعر وكرامات ومقدسات ومحرمات. كان الثمن هائلاً ومريعاً في غزة كالمعتاد. وكان الرعب متعمداً في وضوح.…

ما تستحقه الشعوب على الضفتين

الأحد ٠٩ مايو ٢٠٢١

لا استمرارية إلاَّ في التطوير. الإنسان الذي لا يطوّر نفسه يفشل. والدولة التي لا تطوّر نفسها تصدأ، واللغة التي لا تطور نفسها تنقرض. البرنامج الداخلي والخارجي الذي عرضه الأمير محمد بن سلمان في مقابلة عبد الله المديفر، حمل تجدداً شاملاً في رؤية قائمة: العلاقة الاجتماعية مع الناس، والعلاقة الاقتصادية مع الدولة، والعلاقة السياسية مع الأصدقاء وأهل المنظومة الدولية. في شرق أوسط متأزم، وأمام دولة أميركية في وضع انتقالي متسارع، وحال دولية متوترة، اختار ولي العهد السعودي أن يتخذ هو المبادرة: مدّ يد التوافق إلى إيران، من أجل سلام المنطقة وازدهارها، وتجديد الصداقة مع الكرامة، مع الإدارة الأميركية الجديدة، والتأكيد للحلفاء والأصدقاء التقليديين على أن كل مودة في مكانها. خرج الأمير محمد من الكلام العام والخطاب العائم. وطرح القضايا التي تواجه المملكة والمنطقة بكل وضوح. وكرر شجاعة الاعتدال المسؤول في الداخل والخارج على السواء. لا عودة إلى الوراء ولا خروج عن الجذور. لكن أيضاً المستقبل للمستقبل. ولكل زمن حاجاته وفروضه. الزمن يتغير بالجميع. ومواجهة التغيير تتطلب تغيير الوسائل أيضاً، من كان يقول قبل 50 عاماً إن النفط سوف يتنازل عن كثير من احتكاره إلى الطاقة الشمسية، وإن الكهرباء ستولّد من دواليب الهواء التي كانت لعبة للأطفال مثل طائرات الورق؟ ومن كان يعتقد أن عدد سكان الرياض سيصبح في عدد سكان لبنان؟…

«جرائم النيل والصحراء»

الإثنين ٠٥ أبريل ٢٠٢١

كانت أغاثا كريستي أشهر كاتبة جريمة في التاريخ. ونظر العالم إليها دائماً على أنها بريطانية، حيث أمضت معظم عمرها، لكن الحقيقة أنها من أب أميركي وأم بريطانية. وعن علاقتها بالعالم العربي اشتهرت روايتها (لاحقاً أصبحت فيلماً) «جريمة على النيل»، كما اشتهرت على نطاق أضيق روايتها «جريمة في بلاد ما بين النهرين». الذي لم يعرف عنها كثيراً أنها عاشت سنوات عدة في العالم العربي، خصوصاً في العراق، حيث تعرفت إلى زوجها الثاني الذي كان يعمل منقب آثار لحساب الحكومة البريطانية. ومن ثم انتقلت معه إلى شرق سوريا، حيث استمر في العمل نفسه. وخلال هذه الفترة تنقلت بين مصر والأردن وفلسطين ولبنان. وسافرت بالقطار من بغداد إلى لندن، وفي تلك الرحلة ولدت أشهر رواياتها «جريمة في قطار الشرق السريع». ومن زيارتها إلى البتراء في الأردن ولدت روايتها «موعد مع الموت». كما كتبت عدة قصص قصيرة تدور أحداثها في الشرق الأوسط، خلال الفترة نفسها، وهي الثلاثينات من القرن الماضي. بدأت علاقة كريستي بالعالم العربي عندما جاءت مع والديها إلى مصر وهي في العشرين من العمر كما روت في مذكراتها، التي صدرت عام 1976 بعد وفاتها بسنة. وحاولت والدتها أن تثير اهتمامها بعالم الآثار من حولها، لكنها كانت ترفض ذلك، مفضلة ما في القاهرة من مباهج الحياة. لكن القاهرة كمدينة تركت في نفسها أثراً…

يبقيان هو ولبنان

الخميس ٠٤ مارس ٢٠٢١

كان كميل شمعون من ألمع السياسيين في لبنان، وكنت في السياسة ضده. وكان من أكثر الرؤساء حنكة ووسامة وحضوراً آسراً. وكنت ضد مواقفه. وفي عهده عرف لبنان الازدهار الذي لم يعرفه في تاريخه، وكنت أدرك هذه الحقيقة، لكن موقفي حياله لم يتغير، لأنه غامر بعروبة لبنان وجعل البلد ينقسم من حوله. كما عمد إلى تحطيم رجال السياسة الكبار مثل صائب سلام وكمال جنبلاط وعبد الله اليافي. خلال مرحلة طويلة كان مكتب غسان تويني في «النهار» ملتقى سياسيي المعارضة في لبنان. وكل يوم كنا نلتقي في المصعد رموزاً مثل ريمون إده أو كميل شمعون في طريقهم إلى «الطابق التاسع». وكنت، أتجنب إلقاء التحية على رئيس الجمهورية السابق. وكنت قليل الأدب، قليل الذوق. توفيّ من دون أن يتسنى لي الاعتذار منه، لكنني اعتذرت من نجله دوري. ليس عن موقفي السياسي، فهو لم يتغير، ولكن عن سلوكي المشين، حيال قامة تاريخية بذلك الحجم. منذ عام تقريباً استقالت حفيدته، تريسي شمعون، من منصبها سفيرة لبنان لدى الأردن، احتجاجاً على سياسة الرئيس ميشال عون والوضع المتردي في البلد. وبدأت السيدة البالغة 60 عاماً نشاطاً سياسياً مليئاً بالحيوية، وفي أسلوب راقٍ، وآداب البيوت الرئاسية. ورغم أنها إنجليزية الأم، فإنها تتحدث بلغة عربية طليقة، وتعبّر عن خبرة سياسية واضحة. وعندما ظهرت على «MTV» قبل أسبوعين، حققت مشاهدة…

من الديرة إلى المريخ

الخميس ١١ فبراير ٢٠٢١

سافرت إلى دبي أول مرة، عام 1964، صحافياً، مرافقاً أول وفد للجامعة العربية برئاسة أمينها العام عبد الخالق حسونة باشا. وكانت تليق بالرجل الألقاب المشيرة إلى الرِّفعة. حلّ الوفد في فندق «الخليج» المُفتَتَح حديثاً والمؤلّف من ثلاثة أو أربعة أدوار، كأول وأعلى ناطحة سحاب في البلد. بالأحرى على مدى المنطقة التي سوف تصبح لاحقاً، الإمارات العربية المتحدة، أجمل الوحدات في عالم عربي متفكك وهش ومتهافت ولا يكفّ عن الاهتزاز. تخيلت نفسي جالساً في بهو «الخليج» ذلك العام، وحسونة باشا قادم نحوي بكل أكابريَّة يسألني إن كنت قد عثرت على طبيب أسنان يعالج ألم الضرس الذي أصابني. ثم، من أجل أن يوزع السلوى على الجالسين، يقول: هل تعرفون شيئاً ما؟ إنهم سوف يبنون مكان هذه «اللوكاندة» التي تنقطع المياه فيها، أفخم فندق في العالم، وهذا الشارع الترابي أمامكم، سوف يرتفع فيه ذات يوم، أعلى برج في العالم. ونضحك جميعاً. ونُبدي كلنا الإعجاب بمخيّلة الباشا. ويبدو أن الإطراء قد راق له، فمضى يتوقع: أعرف أنكم لن تصدقوا هذا الكلام. ولكن هذه الإمارة التي مطارها الآن في الشارقة، سوف يكون مطارها ذات يوم، الأكثر ازدهاراً في العالم. أجل. ليس في أميركا ولا في أوروبا، بل في العالم. تطلّع أحدنا عبر نافذة البهو، ثم قال للباشا مقاطعاً بكل أدب: يا باشا، أفخم فندق، فهمنا.…

لا شرق في أميركا الجنوبية

الخميس ٠٤ فبراير ٢٠٢١

شهدت أميركا الجنوبية خلال القرن الماضي حروباً داخلية كثيرة، وحروباً أهلية أيضاً، وحروب مخدرات، ولكن ما من حالة من الحالات عبرت فيها جيوش دولة الحدود إلى دولة أخرى. وهذه الظاهرة لا تضع القارة في صف الأمم النموذجية؛ فهي موبوءة بجميع أنواع المشكلات السياسية والاجتماعية والعنصرية الأخرى. لكنها خطرت لي وأنا أبحث في ذاكرتي عن منطقة شبيهة بمنطقتنا؛ حيث لم تبق دولة إلا دخلت جيوشها أراضي جارتها أو أبعد منها. وإذا وضعنا جانباً حروب إسرائيل واحتلالاتها؛ السابقة والباقية، يصعب علينا أن نحصي بدقة عدد المرات التي رأينا فيها جيشاً يعبر الحدود للقتال عبرها. وفي الماضي كانت الجيوش النظامية هي التي تقوم بهذا الدور، لكن الآن نجد القوات شبه العسكرية تؤدّيه، مثل «حزب الله» في سوريا، والميليشيات الباكستانية والأفغانية، و«الحشد الشعبي» في العراق، ونجد جيوش تركيا وإيران في سوريا والعراق وليبيا. وفي نهايات القرن الماضي دخلت جيوش العراق إيران، وبعدها قامت باحتلال الكويت. وخاضت مصر في اليمن حرباً كلفتها 67 ألف قتيل. وخاض اليمن الشمالي حرباً طاحنة ضد الجنوب. وخاضت ليبيا في العصر الجماهيري كل حرب تستطيع الوصول إليها؛ من تشاد إلى لبنان. ودخلت سوريا إلى الأردن. وجاءت قوات منظمة التحرير إلى القتال في لبنان. واستقر الجيش السوري في لبنان طوال عقود، مرفقاً بمركز دائم للمخابرات. وعرفت الحدود الجزائرية - المغربية مناوشات…

الحلم الأميركي مبعثراً

الأربعاء ٢٠ يناير ٢٠٢١

ثمة تعبير ذائع حول العالم هو «الحلم الأميركي»، والمقصود به، بلاد الفرص الكبرى التي لا تتيحها أي ديار أخرى في العالم. لاحظ المشهد هذا النهار: السيدة الأولى التي تغادر البيت الأبيض عارضة أزياء سابقة من سلوفينيا، والسيدة التي تدخله، نائبة للرئيس، خليط من دماء هندية وكاريبية، وعضو في مجلس الشيوخ. للمرة الأولى يبدو «الحلم الأميركي» خائفاً. وللمرة الأولى تبعثر وهدد وأهين. لكنه يبقى بلا شبيه. ما مِن دولة بيضاء تنتخب رئيساً أسود لولايتين. ما من شعب ينتخب ممثلاً سابقاً رئيساً لولايتين وبأكثرية ساحقة. ظل عمر الشريف «فتى الشاشة الأول» في مصر، إلى أن تعرفت عليه كاميرا هوليوود فأصبح فتى الشاشة الأول في العالم. هاجر جبران خليل جبران مع أمه وإخوته، فتى معدماً. وسكنوا جميعاً مع الآيرلنديين الأكثر فقراً منهم. وفي بلاد الحلم سوف يصبح أحد أشهر كتّاب أميركا. وحفيد المهاجرين الآيرلنديين في بوسطن، جون كيندي، سوف يصبح رئيساً للدولة. وأيضاً سوف يُغتال. الحلم الأميركي تقطعه كوابيس كثيرة استغلت مجموعة إيطالية سافلة بلاد الفرص وأنشأت المافيا. لكن النظام الأميركي ظل أقوى من المحن التي تضربه: رغم الحشد العسكري في العاصمة، فهذا يوم احتفال بالديمقراطية. بالدستور وبإرث «الآباء المؤسسين». وفي اليوم الأول من ولايته يقرر الرئيس الجديد صرف 1.9 تريليون دولار لتحفيز الاقتصاد. أترك لجنابك أن تحسبها. وأن تحسب معها ثروة آدم…

الطاعون والكوليرا

الأحد ٠٦ ديسمبر ٢٠٢٠

عندما تأكد للعالم أن جائحة «كورونا» حقيقة سوف تطول، أخذ الناس في العودة إلى تاريخ ومشاهد الأوبئة الماضية. وفي فرنسا وحدها أعيد طبع ملايين النسخ من رواية ألبير كامو «الطاعون»، التي منح عليها نوبل الآداب عام 1957، وعلى نطاق أقل بكثير أعيد طبع رواية «الحب في زمن الكوليرا» للكاتب الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز الذي مُنح نوبل 1967 على روايته «مائة عام من العزلة». تدور «الطاعون» في مدينة وهران الجزائرية، مولد كامو، أما «الحب في زمن الكوليرا» فتدور في مدينة متخيلة، كعادة ماركيز، على البحر الكاريبي. في رواية كامو، الطاعون، هو البطل. هو الذي يحرك الأحداث والناس والإطار. أما الكوليرا في رواية ماركيز فهي ليست سوى مسرح تاريخي شاهد على أحداث رومانسية جرت في وقته، أي حوالي نهايات القرن التاسع عشر، كما يُفهم من النص، عندما تبدأ السيارات في الحلول محل عربات الخيل، وتبدأ رحلات المناطيد في سماء المدينة الشديدة القيظ، المليئة بالمستنقعات وحشراتها، وأيضاً بائعات الهوى، كما هي جميع مدن ماركيز. إنهن عنصر أساسي في روايات ماركيز، غالباً من دون أي ضرورة أو مبرر، وغالباً في تكرار واضح. مع اشتداد جائحة «كورونا» وتماديها وتفاقمها، عدت مثل غيري إلى قراءة «الطاعون» و«الكوليرا». عمل كامو كنت قد قرأته لا أدري كم مرة عبر السنين. رواية «الكوليرا» كنت قد قرأتها مرة واحدة من…