ياسر حارب
ياسر حارب
كاتب إماراتي

الباحثون عن فتوى

السبت ٠٤ فبراير ٢٠١٢

أخبرني أحد العاملين في قناة تلفزيونية عن دراسة أعدتها شركة أبحاث متخصصة في الدراسات الإعلامية، حول أكثر البرامج مشاهدة في العالم العربي، فاحتلت الدراما العربية وبرامج الإفتاء المباشر رأس القائمة. وحدثني أحد أصدقائي أن زوجته أرسلت رسالة نصيّة عن طريق الهاتف إلى الهيئة العامة للشؤون الإسلامية والأوقاف تستفتيهم في قضية ما، فجاء الجواب بجواز فعل ما سألت عنه. فطلب منها زوجها أن ترسل نفس السؤال مرة أخرى بعد نصف ساعة، فجاءها الجواب بالتحريم. فتساءلتُ: لماذا يستميت الناس في البحث عن فتوى في كل شيء؟ وما الجدوى من توفير خدمات (الفتاوى المستعجلة) في كل مكان؟ فهناك عشرات المواقع الإلكترونية، والخدمات الهاتفية، التي لا تكتفي بالفتيا، بل تُفسّر الأحلام أيضاً، حيث قرأتُ قبل أيام إعلاناً وضعته إحدى الجهات (الرسمية) عرضت فيه رقماً مجانياً لاستقبال طلبات تفسير الأحلام! أستغرب كثيراً عندما أدرك بأننا أكثر شعوب العالم دراسة للدين وقراءة لكتب الشريعة، إلا أننا مازلنا أكثرها سؤالاً عن الأحكام الفقهية! وأشعر أحياناً بأن الناس لا تعرف شيئاً في الدين، وتخاف فعل أي شيء في الحياة دون الحصول على فتوى. وعلى الرغم من كثرة انشغالنا بإنتاج الكتب الشرعية، إلا أن معظم مؤلفاتنا الدينية هي إعادة إنتاج للقديم، ومعظم الاستشهادات هي نفسها التي نسمعها مذ كُنّا في المدرسة، ولا يكاد يأتي فقيه معاصر بشيء جديد إلا…

السرقات الأدبية

السبت ٢٨ يناير ٢٠١٢

قامت الصحافة الخليجية ولم تقعد عندما حكمت المحكمة على د. عائض القرني بدفع غرامة مالية قدرها 330 ألف ريال لسرقته 90% من المادة التي ضمّنها في كتابه (لا تيأس) من كتاب (هكذا هزموا اليأس) للكاتبة سلوى العضيدان. لم تكن المشكلة الرئيسية في السرقة فقط، ولكنها في أن الشيخ عائض قد نفى في البداية سرقة مادة سلوى، ثم اعترف لاحقاً بذلك! ولستُ هنا في صدد تحليل هذه القضية التي صدر فيها حكم محكمة، ولكنني تابعتُ الحوارات الدموية التي انتشرت في تويتر يوم صدور الحكم، ولاحظتُ كيف اختلف المغرّدون، بشراسة، حول مفهوم السرقات الأدبية. حيث يُبالغ كثير من الناس اليوم في وصف هذا المصطلح؛ فلا يكاد أحدهم يكتب شيئاً، في تويتر على وجه الخصوص، إلا وينبري له من يتهمه بالسرقة. حدث قبل أيامٍ أن كتبتُ تغريدة اقتبستُها من مقال نشرته قبل عدة سنوات عن التسامح، فظهر لي شخص لا أعرفه وقال لي بأنه كتب نفس الكلام قبل قليل وطلب مني إيعاز الفضل لأهله! دخلتُ إلى تغريداته فوجدته قد تحدث عن التسامح، ولكن كلامه، أي نصه، كان مختلفاً تماماً عما كتبتُ، بل وجاء بعدي زمنياً، فتساءلتُ: هل يحق للأشخاص امتلاك الأفكار أم النصوص؟ تحدث توفيق الحكيم بإسهاب حول هذا الموضوع، وقال في مجمل حديثه بأنه “لا ملكية للأفكار، ولكن الملكية للنصوص”. فالفكرة تسافر…

متى كانت آخر مرة؟

السبت ٢١ يناير ٢٠١٢

عندما كنتُ في المدرسة، كنتُ أقول في نفسي بأن أسعد أيام عمري ستبدأ بعد تخرجي من الثانوية، حيث لن يفرض أحد عليّ الاستيقاظ مبكراً، وحمل أكوام من الكتب، ثم التوجه إلى الجحيم.. نعم هكذا كانت المدرسة بالنسبة لي. ففي الثمانينات والتسعينات، كانت المدرسة عبارة عن معركة ضربٍ مُبْرِحٍ من أساتذة لا هم لهم سوى قضاء اليوم في إهانة الطلبة، ولا أكاد أتذكر من اتخذ التعليم منهم رسالة وليس حرباً، إلا ثلة قليلة. وعندما تخرجتُ من المدرسة ودخلتُ الجامعة، وجدتُ أن الدراسة هناك أثقل عبئاً، فقلتُ لنفسي بأنني سأرتاح عندما أتخرج وأعمل. وبعد أن توظفت، لم أذكر بأنني عدتُ إلى المنزل قبل المغرب إلا في أيامٍ معدودة، فأيقنتُ بأن المدرسة والجامعة كانتا أرحم بكثير. وكنتُ قبل أيامٍ واقفاً أنظر في صورة وضعتها زوجتي (هَيَا) في غرفة الجلوس، وقد جَمَعَتْها هي مع أطفالنا سعيد وعمر وعائشة، إلى جانب مجموعة صور أخرى التُقِطَت قبل عدة سنوات، فتفاجأتُ بأنني لم أكن في أي من تلك الصور! يا إلهي، تذكرتُ بأنني لم أكن متواجداً مع أسرتي كما ينبغي في تلك الأيام، لأنني كنتُ، ككثير من الرجال «أسعى لتوفير لقمة العيش لهم». ما أقبح أعذارنا نحن الرجال، نظن بأن لقمة العيش الهنيّة هي اللقمة الدّسمة، وننسى بأن اللقمة الحقيقية هي التي نتناولها مع من نحب، بغض…

الفئة الفالّة

الثلاثاء ١٧ يناير ٢٠١٢

بقلم: ياسر حارب يَسْتَهِلُّ توماس فريدمان كتابه «العالم مُسطّح» بقصته، عندما كان يلعب الغولف في إحدى الملاعب الهندية، ثم ينتقل تدريجياً إلى فحوى الكتاب بسلاسة ويُسْر عن طريق ضرب الأمثال والاستشهاد بالوقائع البسيطة، ولا يهم إن كنا نختلف أو نتفق مع فكره، إلا أنه يبقى أحد أشهر الصحفيين في العالم؛ لبساطة أسلوبه ولبعده عن النخبوية. وعند قراءتي لمجلة التايم، وهي المجلة الأمريكية الوحيدة التي أقرأها، أجد في تقاريرها ومقالاتها بساطة مشابهة، تتميز بوضوح اللغة وبعدها عن التّقْعير، إلى جانب القصص التي تُقرب المعنى إلى أكبر شريحة من القُرّاء. فلم يعد هناك مكان في عالم اليوم الذي تقوده وسائل الإعلام الحديثة -التي صَنعت أنساقاً جديدة في العالم- للأرستقراطية الفكرية؛ لسبب واحد فقط: وهو البساطة. ولم تعد النخب قادرة على صناعة الرأي العام أو حتى تحريكه، وصارت تغريدة واحدة على تويتر تثير جدلاً واسعاً في المجتمع، وأحياناً، تدور بسببها صراعات ومناوشات فكرية واجتماعية أكثر من مقالة رصينة لأستاذ جامعي معروف. ليس هذا تقليلاً من شأن الكتابات والأطروحات العلمية، لكنني أستعرض الواقع. وقبل مدة قصيرة ظهرت مجموعة من الشباب السعوديين المبدعين الذين استوعبوا هذه الفكرة، فبدأوا يحاكون المجتمع وينتقدون المظاهر السلبية فيه عن طريق تصوير مشاهد كوميدية قصيرة، وعرضها على يوتيوب، كبرنامج (على الطاير) و(لا يكثر) و(إيش اللّي) وأخيراً البرنامج الذي أخذ بُعداً…

ليتني أشبهك يا روسّو

السبت ١٤ يناير ٢٠١٢

في تاريخ الأدب الإنساني، لا تكاد تخلو حقبة زمنية من صراعات بين الفلاسفة والأدباء الذين عاشوا فيها. وفي تاريخنا العربي، خصوصاً في النصف الأول من القرن العشرين، امتلأت الساحة المصرية، التي كانت آنذاك البوابة الكبرى للثقافة العربية، بعشرات المعارك والمشاحنات التي دارت بين أعلام الأدب العربي، وكان أكثر أولئك الأعلام شغباً هما عباس العقاد وطه حسين، اللذان كانا شديدي النقد، لا تفوتهما قصيدة أو مقال أو قصة دون أن ينتقداها نقداً أدبياً لاذعاً. وكانت خصومة العقّاد لأحمد شوقي هي الأكثر بروزاً، حيث ذكر بعض الباحثين أن العقاد كان يغار من شوقي، لا لكونه من الطبقة الأرستقراطية، ولكن لكونه أكثر بلاغة منه. ولستُ هنا في معرض المقارنة بين الرجلين، فلقد أشبع النقّاد هذا الموضوع بحثاً وتفصيلاً، ولكنني توقفتُ عند حادثة جرت بعد وفاة شوقي بعشرين عاماً، ذكرها أنيس منصور، عندما هاجم العقاد شوقي في محاضرة بالجامعة الأمريكية، ولما سُئِل عن ذلك قال: «إنني أحسن حالاً من الذين يُدافعون عن شوقي، هم يرونه قد مات، وأنا أراه حيّاً». فوجدتُ في هذه الكلمات كثيراً من التبجيل لشوقي، واعترافٌ «فلسفي» غير مباشر بمكانته الأدبية. وعلى الرغم من أن سجالات أدباء تلك المرحلة لم تخلُ من بعض الشتائم، إلا أن الحصيلة النهائية كانت كتابات عظيمة لأدباء عِظام، علّمونا في اختلافهم أكثر مما علمونا في اتفاقهم.إن…

اليوم الأول

السبت ٣١ ديسمبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب أول يوم في المدرسة هو أسوأ يوم في حياتي، وحياة أغلبية من يقرأون هذا المقال الآن. فالمفاجأة النفسية والذهنية عظيمة، وجوه غريبة، ومكان جديد تتلاطم فيه مشاعرنا كالأمواج العاتية في بحر الشمال. أما أول يومٍ في الإجازة، فهو أسعد يومٍ في حياتنا جميعاً؛ يبدأ باللعب وينتهي بوجبة دسمة، ثم نوم عميق، وأحلام سعيدة خالية من أي خطط، حتى لأظن أحياناً أن أعمارنا الحقيقة هي التي قضيناها في الإجازات. كبرنا وصارت بعض البدايات تملأنا بالسعادة؛ لأنها تعيدنا إلى أيام الطفولة الجميلة دون أن نشعر. لا أدري لماذا يحب الإنسان البدايات كثيراً؟ ربما لأنها أكثر وضوحاً من النهايات. غداً هو اليوم الأول من عام 2012، والليلة سنعود كلنا أطفالاً مرة أخرى، نقلّب قنوات التلفاز لنشاهد الألعاب النارية، ثم ما إن تشرق شمس الغد حتى نصبح كالهواتف المحمولة، نحتاج إلى ضغط زر إعادة التشغيل لكي نتخلص من تشنجات العام الماضي، ونقبل على العام الجديد بسهولة وسرعة فائقة. توقفتُ منذ سنوات عن التخطيط المُفَصّل والدقيق لحياتي، وعلى رغم كل الدورات الإدارية التي حضرتها، إلا أنني مقتنعٌ اليوم بأننا كلما خططنا لحياتنا كثيراً؛ عبثنا في براءتها وزدناها فوضى. قبل سبع سنوات قررتُ أن أكتب جملة واحدة في أول يوم من العام الجديد لأحدد هويته بالنسبة لي، ومن ثم أترك لنفسي الخيار في…

حكايات الأرصفة

السبت ٢٤ ديسمبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب للانتظار طعمٌ آخر عندما يكون على رصيف قديم، مزدحم بالناس والمشاعر، تتجاور على صفحته أقدام المارة والحَمَام. يُخيّلُ إليَّ أن بعض المدن بنيت من أجل أرصفتها، حيث يُعد الرصيف فيها الملجأ الذي يرتمي عليه الهاربون من شظف العيش، ومن ثقل المسؤوليات. في تلك المدن، تتزين الأرصفة بالأمنيات، وتتعطر أجواؤها بعبق القهوة التي تُقدّم مع أولى خيوط الشمس وآخرها، تحت ظلال الأغصان المنتشية بالحياة. أحد أجمل الأحاسيس التي تخالجنا هي عندما تمتزج رائحة القهوة الصباحية برائحة أوراق الأشجار المُبللة بأمطار الليلة الماضية. للأرصفة حكايات تنتظر أن تروى؛ حكايات الشحاتين وقصص العاشقين الأبدية، فلا تكاد تخلو الأعمال الروائية العظيمة من رصيف دارت عليه أحداثٌ جسام، تنوّعت بين اللقاء والفراق، وبين سقوط القنابل وتفتح الأزهار. للرصيف مكانٌ في قصص نجيب محفوظ، حيث كان يجلس في مقهى الفيشاوي ويكتب عن المارة ولهم. لقد كان منجماً من الحكايات الإنسانية المتنوعة. وللرصيف مكانةُ عند المنتظرين؛ فانتظار الأحباب يجعل من الأرصفة أحباباً آخرين، لا نعرف قدْرهم حتى نفارقهم. قد ننسى كثيراً من الذكريات، ولكننا لا ننسى الأرصفة التي جمعتنا يوماً بمن نُحب. تخيلوا مدينة تخلو من أرصفة؟ يا لسذاجة الانتظار حينها، ويا لكآبة المكان! رصيف الميناء مسرح من مسارح الحياة، أبطاله العتالون المنهزمون، والربابنة الأباطرة، الظالمون في أغلب الأحيان. الجمهور الوحيد على أرصفة الموانئ…

الأشياء التي تعبرنا

السبت ١٧ ديسمبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب قرأت قبل أيام هذا السؤال الفلسفي على تويتر: «إلى أي الضفتين ينتمي الجسر؟ أم أنه ينتمي إلى نفسه؟». كنتُ حينها أقود سيارتي على أحد الجسور في دبي، توقفتُ على كتف الطريق، وحدقتُ في الجسر بضع دقائق، فأدركتُ أن الجسر ينتمي للأشخاص الذين يعبرونه؛ فالهدف من وجوده هو إيصالهم بين الضفتين، ولولاهم لما كانت له حاجة. يُقال إن الإنسان ينتمي إلى من يحتاج إليهم، ولكنه أحياناً ينتمي إلى من يحتاجون إليه أكثر؛ كالأم التي تعطف على أطفالها، لأنها تحتاج إلى ذلك العطف أكثر منهم أحياناً. عندما تعبرنا الأشياء فإننا نشعر بخفة كبيرة، لأنها تحمل معها شيئاً من الثقل الذي يضغط على كواهلنا، ولذلك فإنها تمنحنا عمراً أطول، أو ربما، أقل شقاءً. كل الأشياء الباقية ثقيلة، ولذلك يشعر الإنسان بالراحة عندما يسافر، ولا بد من رحيل من نحب حتى نتعلم الاشتياق إليهم. الاشتياق غريزة وجدانية، لا تثقل إلا عندما تتراكم، مثل القطن، فهو على الرغم من خفته فإنه لا يشكل ثقلاً إلاّ بكميات كبيرة. أما الأشياء الباقية فإنها تشبه الحديد، مهم وحيوي، ولكن كمية قليلة منه قد تقصم ظهورنا. النجاح يشبه الجسر، معلق بين ضفتين، يبدو المنظر من فوقه رائعاً، ولكن إطالة الوقوف عليه تحيل الأشياء الجميلة إلى عادية؛ ولذلك فإن الإنسان في بحث دؤوب عن جسور أخرى، ليس…

مثلث الخجل الخليجي

السبت ١٠ ديسمبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب كنتُ أشاهدُ برنامجا على إحدى القنوات الإماراتية حضَرَتْ فيه مجموعة من الفتيات للحديث عن مشروع ما. كان الحوار جامدا جدا، وكلما أراد المذيع أن يلطف الأجواء بطرفة أو بتعليق، كانت الفتيات يزددن تزمّتا وتَخَشُّباً على المقاعد؛ في محاولة للسيطرة على مشاعرهن وعدم الضحك. وعلى رغم امتداد البرنامج لساعة تقريباً، فإنهن لم يفقدن «هيبتهن» ورصانتهن أمام المشاهدين، ولم يفتهن أن يلبسن أغلى الساعات وينتعلن آخر الأحذية ذات الماركات العالمية. وفي إحدى المناسبات الوطنية، كان الحضور فيها يزيدون عن ألف إماراتي تقريباً، لم أكد أسمع لهم صوتاً؛ فالكل كان مشغولا بالتأكد من أن لبسه على ما يرام، فالرجال منهمكون في «تضبيط» غترهم، والنساء لا يهدأن يفككن «شيلهن» ويُعِدْنَ لفها حول رؤوسهن، مرة كل بضع دقائق. وقبل أيام زارني صديق خليجي، وفي خضم حديثنا سألني: «ما سرّ الانطوائية عندكم في الإمارات؟» حيث تساءل عن غياب الفرد الإماراتي عن المشاركات الإعلامية والاجتماعية والثقافية في المنطقة، وعندما تكون هناك مناسبة ما فإن نفس الأسماء الإماراتية تتكرر كل مرة. قلتُ له بأن الإمارات تزخر بالمبدعين والمثقفين، ولكن إحجام أبناء وبنات الإمارات عن المشاركة في الحراك الفكري والاجتماعي، داخليا وخارجيا، يعد أزمة اجتماعية حقيقية، سببها، رُبّما، خجل غالبية أفراد المجتمع من إبداء آرائهم أمام الملأ، وربما يكون السبب هو عدم اكتراثهم بالتعبير عن أنفسهم…

ماذا كل هذه المثالية؟

السبت ٢٦ نوفمبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب عندما كان سقراط يطرح الأسئلة المحيرة على الناس في طرقات أثينا وساحاتها، كان (السوفسطائيون) الذين يوصفون بأنهم «محبو الجدل» ويناقشون الناس في كل شيء بهدف تعليمهم، يقولون إن القيم الاجتماعية والأخلاق الإنسانية نسبية، وليست مطلقة، أي أنها تتغير بتغير الوقت والحاجة، فالكذب الذي يعد عملاً منبوذاً، قد يكون محموداً، في عرفهم، عندما تدعو الحاجة إليه. إلا أن سقراط هاجمهم بكل ما أوتي من حكمة قائلاً إن القيم والأخلاق مطلقة في كل الحالات والظروف، ولا يمكن تجييرهما تبعاً لأهواء البشر ونزعاتهم السلطوية، حتى اتُهِمَ بعداوة الآلهة وأُعدم، إلا أن موته كان إيذاناً بولادة فلسفة إنسانية جديدة ما زلنا نقتبس من نورها الكثير. فهل كان سقراط مثالياً في طرحه؟ أم كان السفسطائيون عقلانيين في كلامهم؟ لقد نادى الأنبياء والفلاسفة والمصلحون، عبر التاريخ، بالتمسك بالقيم السماوية التي تجعل المجتمعات أكثر استقراراً وسلاماً، وكان معظم ما نادى به هؤلاء المصلحون يفوق مقدرة البشر على تطبيقه بحذافيره، ففي عهد الرسول ــ صلى الله عليه وسلم ــ الذي يوصف بأنه عصر ذهبي، زنت امرأة متزوجة وحملت سفاحاً، في مجتمع صغير جداً، وسرقت امرأة أخرى، وخان المنافقون عهودهم مع المسلمين، حتى وهم يُصلون معهم في مسجد الرسول. كل ذلك والقرآن كان ينزل بين ظهرانيهم تباعاً، والوحي يهبط بين الحين والآخر، أي أن الإيمان كان…

لماذا تُجلَد المرأة العربية؟

السبت ٠١ أكتوبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب تحدث إمام المسجد في الجمعة الماضية عن الحياة الزوجية، وكان يذكر بين الفينة والأخرى جملة «وهو أقرب إلى تأديبهن» فظننتُ أنه يتحدث عن البنات، ولكنني أيقنت بعد بضع دقائق أنه كان يتحدث عن الزوجات، أي الأمهات اللائي يُفترض بهن أن يؤدبن أطفالهن، فاستغربتُ لماذا يحتجن إلى تأديب! وإذا سألتَ أحدهم: «هل أكرم الإسلام المرأة؟» فسيرد بالإيجاب، ولكن إن سألته عن أدلة على ذلك فلربما يتلعثم ولا يستطيع الرد لأنه لا يعلم كيف أكرمها، وكان يكفيه الاستشهاد بأن النبي ـــ صلى الله عليه وسلم ـــ قد فاضل بين الرجال على قدر إحسانهم لنسائهم. إن النسق الاجتماعي العربي ما زال يعاني ازدواجية مربكة في نظرته تجاه المرأة، فهو يؤمن بأن للمرأة حقوقا ومكانة رفيعة. ولكنه يناقض نفسه في كثير من الأحيان، عندما يتفاعل مع قضاياها. وإحدى أبرز هذه التناقضات هو تأطيره لممارسات سماها «قضايا المرأة» ومحاولته (منحها) حقوقا، متغاضياً عن كيانها الوجودي المستمد من الأعطية الإلهية التي وهبها الله لكلا الجنسين، والتي لم يوكل الرجل ليمنحها للمرأة بالنيابة عنه. ثم تباينت المجتمعات التي سيطرت عليها النزعة الذكورية على مر الزمن في منح المرأة حقوقها أو سلبها إياها، وقلّما وجد مجتمع في التاريخ تعامل مع المرأة بحيادية وإنصاف مثلما تعامل مع الرجل. ولقد أحالت هذه الربكة المرأة إلى كائن نسبي…

كيف تُفَطّرُ خليجياً؟

الثلاثاء ١٣ سبتمبر ٢٠١١

بقلم: ياسر حارب عندما رفع المصريون شعار «ارحل» في ثورة الخامس والعشرين من يناير لم يقصدوا بذلك رحيل مبارك ونظامه فقط، بل كانوا يطمحون إلى رحيل الفقر والبطالة والفساد وكل الآلام التي سببها لهم النظام السابق على مدى ثلاثة عقود. ولكن مصائب مبارك وآثامه لن ترحل خلفه بمجرد مغادرته السلطة، فما دُمّر في ثلاثين عاماً قد يحتاج إلى أعوام مماثلة لكي يُعاد بناؤه، حتى وإن بدت ملامح تعافٍ على وجْنَة الاقتصاد المصري خلال السنوات الخمس القادمة. وهو ما نأمله، فستبقى الجوانب السياسية والثقافية والاجتماعية، أي المكونات الرئيسية لأي أمة، تحتاج إلى جهود مضنية حتى يصطلح حالها. إن مَن يرى حال الولايات المتحدة بعد جورج بوش يرثي لحال أوباما الذي أتى في إحدى أصعب الفترات الرئاسية في تاريخ أميركا الحديث، ولكن من يطلع على الحالة المصرية العامة، يأسى على من سيأتي رئيسا للبلاد أكثر من أسفه على أوباما، فإذا استطاعت الولايات المتحدة أن تنجو من انهيار اقتصادي خلال العام القادم فإن ذلك سيُعزى للمنظومة المعرفية فيها القائمة على البحث والتطوير والابتكار، ولكن أين لمصر هذه المقومات؟ فعلى رغم مساوئ عبد الناصر، إلا أنه يحسب له الفضل في محاربة الأمية وخاصة في الأرياف خلال الخمسينات والستينات، ثم، وبسبب إهمال نظام مبارك للتعليم ولباقي مقومات الدولة، بدأت نسبة الأميين بالارتفاع منذ الثمانينات لتقترب…