جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

السعودية ومصر … والتحول من علاقات عمودية إلى أفقية

آراء

ثَمة حقيقة مؤلمة في قصة المحامي المصري الشاب الذي اتُّهم بمحاولة تهريب عقاقير طبية للسعودية، هو أنه كاد أن يفرق بين السعودية ومصر، على رغم كل ما نقوله عن العلاقة الإستراتيجية الحتمية بين البلدين والتي يدركها أي طالب مبتدئ في الجيوسياسة.

السبب أننا لم نكمل عملية التحول من النظام العربي القديم الذي انهار العام الماضي إلى النظام الجديد الذي لا يزال يتبلور من حولنا، ولا نزال نستخدم أدوات النظام القديم التي لم تعد صالحة لعلاج مشكلات النظام العربي الجديد، فالإعلام المصري مثلاً، وهو يحتفل بالحصول على حريته، لم يعرف كيف يستخدمها وفق ضوابط المسؤولية، فكان المؤجِّج للأزمة في حفلة مزايدة على الوطنية، وكاد أن ينافسه في ذلك بعض من الإعلام السعودي لولا أن الحكومة السعودية لفتت انتباه «إعلامها» إلى ضرورة ضبط النفس واتباع سياسة الدولة في الحكمة والصبر، حرصاً على علاقة استراتيجية لا يملك قادة البلدين اختيار غير العض عليها بالنواجذ.

أما في مصر، فلقد فقدت الدولة الجديدة -التي لم تكتمل بنيتها بعدُ- السيطرةَ على الإعلام، وليس هذا عيباً وإنما ميزة وتطور طبيعي للمجتمعات وهي تمضي نحو الديموقراطية. في الماضي، كان يكفي اتصال من وزير الإعلام السعودي لنظيره المصري، أو العكس، لعتاب على مقال أو خبر، وخلال 5 دقائق يتم الاتصال بالكاتب أو المذيع ويوضع حد «للتجاوز» الذي سبب عتب الأشقاء. الوزير السعودي لا يزال يستطيع أن يفعل هذا، ولكن المصري لا يستطيع، بل لن يكون في مصر وزير للإعلام يمكن الاتصال به. كيف إذن يمكن التحكم والتأثير في إعلام حر يفقد منطقه أحياناً، وقد يهدد الأمن القومي العربي -ما سبق عبارة مستعارة من زمن النظام العربي القديم- بقدر ما يهدد الأمن الداخلي لمصر، بنشر الإشاعات التي قد تشعل أزمة محلية، وقد حصل هذا مرات عدة منذ الثورة؟

هذه مشكلة مصر، ومشكلة تونس وليبيا وبقية دول الربيع العربي، وحلها لن يكون بإعادة سيطرة الدولة أو الحزب الحاكم على الإعلام، إذ لن يقبل أحد بذلك، وإنما بتشريعات قضائية وميثاق يحكم أخلاقيات العمل الإعلامي. لقد استشعر عدد من زملاء المهنة في مصر هذا الإشكال مبكراً، ولعل قضية الجيزاوي تضغط عليهم للتعجيل بالخروج بميثاقهم أو التشريعات القضائية المقترحة، ولكن مصر متوقفة حالياً حتى تخرج من مأزق نقل السلطة من المجلس العسكري إلى رئيس منتخب، والذي لا نعرف بعدها هل سيكون هو السلطة أم البرلمان؟

حتى ذلك الحين ستمضي مصر قلقة تحت رحمة إشاعة تحرك العامة إلى العباسية فيقتل منهم عشرون، أو أمام السفارة السعودية في الجيزة، فلا يقتل أحد، ومن ألطاف الله أنه لم يقتل أحد هناك على أسوار السفارة فيطوَّب كـ «شهيد السفارة السعودية» من أحد «فلول» الإعلاميين المصريين، ممن يبحث عن «وطنية» يمحو بها موقفه السابق من الثورة.

أما المملكة، فتحتاج إلى أن تطور أدوات جديدة قديمة في علاقاتها الخارجية مع دول الربيع العربي، والحق أن كل الدول العربية باتت دولاً للربيع العربي الذي لم ولن يسلم منه أحد.

ما قبل الربيع، كانت العلاقات بين السعودية ومصر «عمودية»، بين الملك والرئيس مباشرة، وكل شيء كان يتم بينهما، وما على الوزراء إلا تنفيذ التوجيهات، حتى الأفكار والمقترحات التي تتبلور في اجتماعات اللجان المشتركة أو الوزراء تصعد هي الأخرى عمودياً للقيادة ثم تصدر بها التوجيهات.

السعودية لا تزال محتفظة بهيكليتها «العمودية»، لكن مصر تحولت إلى نظام أفقي، وهو ما يتطلب استخدام أدوات جديدة، لعل هذا يفسر زيارة رئيس مجلس الشعب المصري سعد الكتاتني نهاية الأسبوع الماضي للمملكة على رأس وفد من مجلس الشعب والشورى المصريين.

نحن نحتاج أيضاً إلى اعتماد سياسة أفقية في علاقتنا مع مصر. إنها فكرة قديمة ومؤسسة ومجربة، وهي «الديبلوماسية العامة» التي تقوم على الاتصال بكل أطياف المجتمع. يجب أن نتواصل شعبياً أيضاً، والحق أن بعض الفضل في احتواء أزمة الجيزاوي يعود إلى مبادرات شعبية من مواطنين في البلدين رفضوا أن يستسلموا للمؤججين والمتعصبين، مصريين وسعوديين، فتواصلوا عبر الشبكات الاجتماعية للتعبير عن عمق الأخوة بين الشعبيين. حان الوقت كي نرى شباباً سعوديين في ميدان التحرير يتحاورون مع شباب الثورة بمختلف أحزابهم وتجمعاتهم، وعلماء دين يزورون الأزهر، رجال أعمال يلتقون بنظرائهم، مصر تولد من جديد وبحكم العلاقة الخاصة بيننا يجب أن نحضر تلك الولادة. لا يعني هذا أن نكون كالضيف الثقيل الذي يتدخل في أمور البيت الخاصة، فبالطبع هناك لحظات حرجة أثناء أي ولادة يفضل أن نخرج خلالها من غرفة العمليات.

هذه «الديبلوماسية العامة» التي يكون بعضها رسمياً والآخَرُ شعبياً، كفيلة باحتواء أزمات المستقبل. الحرية تعني أن تسمع ما تحب وتكره. هذه هي مصر الجديدة، ليس كل من فيها يحب السعودية ولا كل من في السعودية يحب مصر، ولكن التواصل كفيل بعلاج حال «الكراهية بين العرب» لدى البعض. إنها حال لا تخص السعوديين والمصريين فقط، لقد حصلت كارثة مشابهة بين المصريين والجزائريين بسبب لعبة كرة قدم قبل عامين، بلغت من السوء أنه لو كانت بين البلدين حدود مشتركة لربما وقعت حرب بينهما.

هذه الديبلوماسية الشعبية يمكن أن تجيب المصريين عن أسئلتهم المعلقة أفضل مما سيفعل مذيعو البرامج الحوارية التي تكاثرت على خراش في فضائيات التلفزيون، هل السعودية ضد الثورة؟ هل تتمنى عودة مبارك؟ هل تدعم السلفيين؟ هل تفضل مرشحاً بعينه؟ وهل تنوي سحب استثماراتها من مصر؟ كما ستجيب عن أسئلة السعوديين: هل ينوي «الإخوان» تصدير الثورة والتدخل في الشؤون الداخلية لدول الخليج؟ هل ينوون التحالف مع إيران؟ هل سيتحول هوى مصر نحو تركيا بعيداً عنا؟ هل ستصدر تشريعات تضيق على الاستثمارات السعودية في مصر؟ وأخيراً متى سنبني جسراً فوق خليج العقبة يربط بين البلدين بعدما فرقت بيننا إسرائيل؟

إلى أن نصل إلى السؤال الأهم: ماذا سنفعل بإسرائيل؟

دارالحياة – السبت 05 مايو 2012