العلمانية بين فريقين

آراء

يمكن لمن شاء أن يكيل المدائح للعلمانية أو يرميها بكل الموبقات. هذا لا يغير أي شيء في أي موضوع. العلمانية محايدة تجاه المعتقدات التي تسكن في ضمير البشر. ومن هنا فهي ليست داعماً للمقدسات والجوانب الغيبية في العقائد والأديان. لكن هذا لا يجعلها عدواً للأديان، ولا يجعلها بالتأكيد ديناً بديلاً عن أي دين أو منافساً للدين.

المتحدثون في العلمانية فريقان، يفهمها كل منهما في إطار مختلف. الفريق الأول يؤمن بها كآيديولوجيا أو شبه آيديولوجيا، يريد تمكينها كمبدأ معياري في الحياة العامة. أما الفريق الثاني فيفهمها كمسار تحول في الإفهام والتعاملات، التي يطور البشر من خلالها حياتهم. لكنه لا يتبناها معياراً أو قيمة مستقلة.

بالنسبة للفريق الأول، فإن الحياة ليست سوى مجال لتبادل المنافع المادية، وإن التبادل المفيد هو ما ينتج قيمة مادية، أو يقبل التحويل إلى قيمة قابلة للاحتساب، وفق معايير الدنيا الحاضرة. القيم المعنوية والأخلاقيات مفيدة طالما أمكن ترجمتها إلى قيم مادية. فإذا اقتصرت عوائدها على منافع غير منظورة أو مؤجلة لما وراء الحياة، فليست ذات موضوع.

انطلق هذا التصور من موقف معادٍ للأديان والتقاليد الروحية التي تحيل المكاسب لما بعد الحياة، أو تفترض وجود شريحة من الأفعال والمسلمات، لا يقدر العقل البشري على إدراكها واستيعابها. ولذا يجب فعلها والتسليم بصحتها تعبداً، أو طمعاً في الجزاء الأخروي.

أما الفريق الثاني فينظر للعلمانية كناتج طبيعي لانتقال المجتمع من عصر التقاليد إلى عصر الحداثة. في عام 1616 حاكمت الكنيسة الكاثوليكية عالم الفيزياء الإيطالي غاليليو، لأنه برهن على صحة آراء كوبرنيكوس، القائلة إن الأرض تدور حول الشمس، خلافاً للتفسيرات المستمدة من الكتاب المقدس. نعلم اليوم أن الناس – حتى الأكثر تديناً منهم – يتعاملون مع الفيزياء والفلك كعلوم مستقلة بقواعدها وتجاربها، ولا يعتمدون التفسيرات المستمدة من الكتب المقدسة. استقلال العلوم وفقدانها القداسة أو الخضوع للمقدس، هو أحد وجوه التحول الذي يوصف بالعلمانية. ومثل ذلك تماماً استقلال القانون والاقتصاد وغيرهما من جوانب الحياة.

بناء القوانين وأنظمة الدولة والسوق على نتائج الدراسات العلمية والمداولات بين ذوي الاختصاص، يزيل القداسة من تلك الأنظمة، ويحولها إلى شأن عرفي يستمد إلزاميته من ذاته أو من توافق المجتمع عليه. أي أن طاعة القانون تفهم من جانب الناس، كواجب يرتبط بالمصلحة العامة العرفية، لا كتكليف ديني.

ونذكر أيضاً أن أهم إنجازات الحداثة هو ارتقاء مكانة الإنسان/ الفرد من منفعل إلى فاعل أو متفاعل. وهذا يظهر بوضوح في تعامل الفرد مع الدين. في عصر التقاليد كان واجباً على الفرد أن يسمع ويطيع. لأن التعاليم الموجهة إليه، آتية من مصدر أعلى وأعلم بمصالحه. أما في عصر الحداثة، فقد بات الفرد أقل اكتراثاً بمصدر التعاليم، وأكثر اهتماماً بالتحقق من فائدتها لحياته. بسبب هذا التحول، فإن التدين السائد اليوم ليس صورة عن تدين الآباء، ففيه كثير مما استعاره الأبناء من إلزامات عصرهم ونتاجاته. تحول موقف الفرد وموقعه من الانفعال إلى التفاعل، هو مثال آخر على تغير مفهوم ومعنى المقدس، وتقلص مساحاته في حياة الناس.

لو تركنا جانباً دعوة الفريق الأول، التي تحمل مضموناً آيديولوجياً، وركزنا على التأمل في تفسيرات الفريق الثاني، فقد نجد أن العلمانية في هذا المعنى واقع يتحقق بالتدريج، وليست مسألة مطروحة للنقاش.

المصدر: الشرق الأوسط