محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

تحديات ومخاطر في الخليج

آراء

في الثلاث سنوات السابقة ضربت المنطقة العربية موجة من التغيرات التي أطاحت عددا من الأنظمة العربية، ولم تكن هي الأولى، وربما لن تكون الأخيرة، فالمنطقة ما زالت حبلى بالاحتمالات، من يتابع ما يُكتب بشكل صريح في الخارج يعرف أن ما يُفكر فيه خلف الأبواب المغلقة في منطقتنا ويُستبعد، يفكر فيه آخرون هناك علنا، بعضه يصل إلى التضخيم، ولكنه يتداول بسبب وجود هذا الساحر الجديد الذي يسمى الإنترنت. الخلاف الخليجي البيني مثير للقلق، زاده ما يُنشر الآن في هذه الشبكة السحرية من تنابذ بين أفراد ومجموعات في دول الخليج ينبئ بأن الخصام قد تجاوز الحد، ووصلت تباشير النزاع، الذي كانت دول مجلس التعاون تحرص على إطفاء شراراته إلى أن أصبح جذوة موقدة، إن لم يتداركها العقلاء فقد تفتح أبواب الشر، هذه المرة من الداخل، كما هي أبواب الشر مفتوحة من الخارج.

أبواق الدعاية التي تحت التأجير أو المتبرعة تحمل معول الهدم وتضرب به شمالا وجنوبا، ولم تعد تلك الأبواق محصورة بين أشخاص تنقصهم الحكمة، بل أصبحت مكثفة بالسفه والاستفزاز، في تقديري، تهدد الأمن الوطني للإقليم قاطبة، المقصود بالهدم هو الحد الأدنى من التعاون القائم في الخليج، وهو مجلس التعاون، الذي كان كثير منا يأمل أن يتطور إلى الأفضل، فأصبحنا نرجو أن يبقى على ما هو عليه حتى لا تتهدم أركانه. إن لم ننظر إلى المستقبل بحصافة وتغليب المصالح البعيدة على الأهواء الآنية، فإن الخسارة سوف تكون عظيمة للجميع.

نحن الآن على شفا مغادرة مجموعة من الركائز، منها:

أولا: انتهاء عصر الاستقواء بالخارج. لقد كان الخليج في تاريخ طويل يرتكز على المساعدة الاستراتيجية من الخارج في معظم ما يواجهه، حتى أصبح الارتكاز ذاك وكأنه طبيعة ثانية. الموضوع قديم من البرتغاليين إلى الهولنديين إلى البريطانيين وأخيرا الأميركيين، هذا التسلسل التاريخي لم يعد متوفرا، إن لم يكن نحن في نهايته فعلى الأقل بدأت النهاية، وما العلاقات الخليجية – الأميركية والتوترات التي مرت وتمر بها إلا إشارة لمن يريد أن ينظر بعمق إلى التحولات في تلك العلاقة كما عرفت، المهم أن ليس في الأفق أي تحالفات جديدة، مهما اعتقد بعضنا أنها هناك، فليس تقديم الكثير من الامتيازات لشركات هذه الدولة أو تلك هو الجزرة التي يمكن أن تستقدم تحالفات جديدة. التحالف الحقيقي المضمون والمؤكد والقادر على الصمود هو الكونفدرالية الخليجية. قيل أكثر من مرة بصراحة أو بمواربة من قبل بعض القوى: إن هذا هو طريقكم إلى المستقبل، من أجل الحفاظ على ما هو قائم. لم يُستمع إلى ذلك الرأي في حينه، بل إن التوجه إلى هدم بعض الجدران هو الذي حصل. العجيب أن الاستقواء بالخارج ظهر وكأنه طريقة ثابتة في التفكير، فها هي وسائل الاتصال الاجتماعي تشتعل بكثير من التفاخر بفوز حزب السيد إردوغان في الانتخابات البلدية الأخيرة، وشعور لدى البعض بالانتصار الشخصي، بينما ذلك الانتصار أو حتى الإخفاق إن حدث لا يغير من واقعنا شيئا يذكر. يقابل ذلك عند البعض الآخر في خليجنا شعور بالفخر بانتصار مقابل لحزب الله في بعض معاركه، وكأنه انتصار لطائفة، وهو في الحقيقة جزء من كر وفر، ولا علاقة له بما يمكن أن يحدث في منطقتنا سواء انتصر أو خسر. إنما هي مدرسة بالاستقواء بالآخر والنظر إلى ارتباط خارجي فشل بعضنا في النظر إلى حديقته الداخلية، وما تحتاج إليه من عناية.

ثانيا: لا يزال بعضنا لا يريد أن يسمع (أو لا يرغب في معرفة) أن منطقتنا في الخليج معتمدة على مادة ناضبة، وهي المواد الكربوهيدراتية، ولم نستطع بعد كل هذا الوقت (بعضه أكثر من نصف قرن) أن نستنبط طرقا ووسائل تساعد على توسيع فرص تعددية الموارد، بما فيها المورد الأساسي والدائم، وهو المورد البشري، فكثير من هذا المورد الأخير إما أُهمِل أو لم يتلقَّ التدريب والتأهيل المستحق، أو غطي بكثير من اليد العاملة الخارجية. الجميع يعرف، حتى من هم على هامش التخصص، أن العالم يتجه إلى التخفيف من الاعتماد على مصادر الطاقة المقبلة من الخليج، ويضع الخبراء سقفا زمنيا لا يتجاوز العقدين من اليوم، وهو أمر يدعو بالضرورة إلى التبصر وتحويل الموارد الحالية المتوفرة إلى مصادر دائمة أو شبه دائمة، كما تفعل الأمم الأخرى التي تخطط لمستقبلها.

ثالثا: لا بد من مسح بقية عدم يقين أن الظهير الحقيقي في المنطقة هو المملكة العربية السعودية، وتزداد أهميتها بزيادة الضغوط على المنطقة ككل، وكانت القيادة حصيفة حينما حصنت التسلسل القيادي في ضوء التحديات التي تواجه، وهو تحصين له ما بعده من خطوات في جملتها إصلاحية من أجل تدعيم البيت، الذي هو عمود الخيمة الخليجية، ولا يستطيع أحد أن يتجاهل التحديات الإقليمية التي تريد أن تهز من صلابة ذلك العمود، وصولا إلى التفرد بما حوله من بشر وخيرات. لا حاجة لي هنا كي أفصّل للقارئ الفطن تلك التحديات المقبلة من الشرق والشمال والجنوب، تختلف أشكالها وتتعدد قوة تأثيرها، إلا أنها جميعا تشكل تهديدا، يكفي أن نرى على شاشاتنا مؤخرا احتفالا كبيرا لمنضمين لـ«القاعدة» على الأرض اليمنية، وهو احتفال معلن ينمّ عن تزايد حرية ذلك التنظيم ومناصريه، كما ينم أيضا عن الهدف المعلن لإشهاره.

رابعا: ما زال السؤال القديم الجديد مطروحا دون إجابة تُذكر، على الرغم من تداوله بين النخبة في الخليج، وهو ما الحجم الأمثل للسكان في الخليج؟ تتراوح نسبة غير المواطنين في هذه المنطقة بين اثنين إلى واحد (أي نصف السكان) إلى عشرين إلى واحد (أي أن الموطنين أقلية الأقلية)، بما يستتبع ذلك من خدمات واستهلاك موارد وبطالة مقنعة وسافرة بين المواطنين، إلى شبهة تهديد للأمن الوطني، ذلك سؤال لا يزال معلقا دون إجابة منذ أكثر من ربع قرن على الأقل، وتلك نسب لم يسبق إليها مجتمع في تاريخ البشرية، إلا أن المستقبل يحمل مخاطر، منها المطالبة بالتوطين.

لم أكتب النقاط الأربع السابقة كي أتغاضى عن النجاحات المحققة على الأقل في النصف قرن الماضي، ولا عن السياسات التي أدت إلى استقرار نسبي أيضا، ولكني كتبت ما سبق كي أقرع جرسا يدعو إلى التكاتف الإقليمي والنأي ما أمكن عن سياسات المناكفات، لأن استمرار المناكفات طريق يودي إلى مخاطر تصيب الحكم والمحكومين.

آخر الكلام:

(ربنا لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا)

المصدر: الشرق الأوسط