حكومة غير قابلة للنضج

آراء

في كتابه الرائع «من حرّك قطعة الجبن»، والذي تضمن سرداً روائياً لتعامل الطبائع الإنسانية مع التغيير، يُسلّط سبنسر جونسون، الضوء على شخصية «هيم»، وهو يمثل ذاك الإنسان الذي لا يرى الواقع إلا كحدث ثابت لا يجوز إطلاقاً أن يتغيّر، وإنْ تغيّر فلا بد أنه سيعود لما كان عليه سابقاً.

لذا، لم يُصدّق أن الظروف من حوله قد تبدّلت، وأن ما كان موجوداً بالأمس ويمثل حياة هنيئة له، لم يعد موجوداً حالياً، وبالتأكيد لن يكون حاضراً في الغد، وعبثاً حاول صديقه «هاو» إقناعه بضرورة الرحيل بحثاً عن مكان آخر يستطيعون العيش به، قبل أن يقتلهم الجوع، لكن دون جدوى حتى هَلَك.

أمثال «هيم» كثيرون للغاية، وهم يشكلون خطراً على أنفسهم، لأنهم يسيرون دوماً خلاف المسار المفترض، ويشتد خطرهم ويتّسع أثره عندما يُمسك أحدهم بتلابيب إدارة مؤسسةٍ ما، ويكون كارثياً عندما يدير دولة بكاملها، تماماً كما يجري حالياً في دولة مجاورة، والتي لا يبدو أنها تريد أن تُصدّق أن مَن حولها قد قاطعها فعلياً، وكشف سجلاتها التآمرية.

ولا تريد أن تُصدّق أنّها أصبحت عارية تماماً أمام الشعوب التي كانت تفترضها شقيقة لها، ولا تريد أن تصدق أن آلتها الإعلامية التي عبثت كمبضع جرّاح مجرم بأوصال أوطان عربية كثيرة، لتؤجج الفتن وتهيّج الشعوب المسحوقة، لتحرق بلادها من أجل أن تصبح أكثر اخضراراً، قد أصبحت مكروهة شرقاً وغرباً.

هذه الدولة تفتقد للنضج كحكومة، وللوضوح كرؤية، وللثبات كمسار لا يعرف التلّون، وعندما تكون هذه الأمور الجوهرية هُلامية، لا يمكن للكيان الذي تمثله أن يقف طويلاً في معترك الأيام، ولن يستطيع مجاراة الناضجين من حوله، لأنه ما زال يتعامل بصبيانيته التي لا يوجد ما يُلزِم الآخرين الأكبر بكل شيء أن يتحملوها منه، صَبْرُ السنين الماضية انتهى تماماً، ولم يبقَ به قطرة واحدة.

ولم تعد الظنون الحسنة قادرة على جعل الكبار يتحملون عبث الصغار بمقدرات بلادهم ومستقبل شعوبهم، الوضع حالياً يقول بملء فيه: هذا فراق بيننا وبينكم، وكما لم يُفِدْكُم العويل وادّعاء المظلومية، وكما لم تنفعكم محاولاتكم المستميتة للوقيعة بين السعودية وشقيقتها الإمارات، فكذلك لن تنجح خطّتكم الجديدة، والتي أبانت وجه حكومتكم الكالح، كما لم يسبق أن رآه أحد.

لم يحفل أحد بكلمة تميم المرتبك، رغم كون الكلمة مسجّلة، وليست مباشرة كما ادّعوا، وهو ما أبانه الديكور الذي «اعتفس» كثيراً وراءه، ولم يعدُ على تأكيد تناقض مَن سبقه مِن المتحدثين باسم حكومته، وهو يقول بأن قطر صامدة، والحياة بها طبيعية للغاية، ثم يقول بعدها بأنّ الشعب في معاناة، ليتلوه بعد أيام في ترجمة للخطة الجديدة، سفيرهم في واشنطن، والذي أخرج كل ما في نفوس ساسة قطر من غِل تجاه دول الخليج.

وهو يتّهم علناً السعودية والإمارات ومصر، بأنها وراء هجمات سبتمبر على نيويورك، وبأن تحالف السعودية والإمارات، يرتكب جرائم وحشية في اليمن، وتسبّب في مجاعة للملايين، الغريب أنّهم على كل هذا الفجور في الخصومة، واتهام الآخرين بما هم أولى به، ما زالوا يعقدون مؤتمرات صحافية عن اختراق وكالة الأنباء، وادّعاء فبركة تصريح أميرهم.

الدول والإمبراطوريات الكبيرة، سقطت كثيراً في الماضي، عندما أخطأت في «الحسبة»، وانتهت لتتلوها دويلات صغيرة متشرذمة، فالزمن لا يرحم، والواقع لا يعرف المجاملات، والكيانات الثابتة النامية، تبنيها السياسات السليمة، ولا يمكن شراؤها بأموال الغاز، وكأنها معروضة على أرفف السوبر ماركت، وإن كان الكبار قد انهاروا سابقاً، فمن باب أولى، أن تذري الرياح الدويلات الصغيرة، والتي «تاكل مقلب في حالها»، والسقوط لا يأتي من كونها صغيرة جغرافياً.

ولكن من كونها صغيرة فكرياً، والتلاشي لا يأتي بسبب أطماع الخارج، ولكن بسبب أطماع الصغار بها، وبفساد النُخبة القليلة التي تحكمها وسياساتها الهوجاء، والانهيار الاقتصادي لا يكون نتيجة التوسع في الإنفاق على المشاريع التنموية داخل الحدود، ولكن ينتج لإهدار ثروات الأجيال القادمة في تمويل الجماعات الشيطانية خارج الحدود.

مع الأيام، ستعرف الصغيرة حجمها فعلياً، هي ما زالت تعيش في وهم أن ما يحدث غير حقيقي، وستعود الأمور كالسابق لتواصل عبثها، فقط أعطوا الوقت مزيداً من الوقت، لا تستعجلوا، دعوا حكومتهم تنكشف أكثر أمام شعبها، مهما طبّل حولها المنتفعون، فالنتائج ستظهر أكثر مع الوقت، والحبل سيلتف أكثر على أعناقهم، بما جنوه على أنفسهم وبمكابراتهم ومراهناتهم وباستمرارهم في الكذب، على أمل أن يجدوا ثقب إبرة يخرجون منه.

ما زلنا في البداية، وما يخرج الآن مجرد أعراض ونتائج ابتدائية، وحكومتهم تحاول بشكل محموم، تغطيتها بقرارات ارتجالية عشوائية، ليست ذات بُعدٍ كافٍ، لكن القادم أدهى، وإن سقط الاقتصاد سقطت الحكومة الكرتونية في لمح البصر، هم يراهنون على أن المقاطعة ستنتهي قبل أن تنكشف أمام الشعب القطري فداحة وعوار الحلول الترقيعية التي لا يعرفون سواها.

سواء كانت هذه الترقيعات عبارة عن تدخل المصرف المركزي لضخ أموال للبنوك، أو وضع السيادة التي طالما «صدّعونا» بها على وضعية الـ Mute، لتفتح الأبواب للقوات التركية وعناصر الحرس الثوري الإيراني، أو محاولة الخروج بخطابيات حماسية تدّعي المظلومية حيناً، وتتفاخر بالكفاح والصمود الساذج لتخدير الشعب الذي يُعاني الأمرّين معاً لوحده حيناً آخر، لكنهم لا يتوقعون أو لا يريدون أن يصدقوا بأنّ المقاطعة ستستمر.

وكلما مرّت الأيام، علا صراخهم أكثر، وأبانوا في العدوانية أكثر، هذا لا يحدث إلا لكون الأرض تهتز تحتهم بشكل متسارع، ويشعرون بقرب النهاية، سيسقطون لا محالة، فقط: أعطوا الوقت مزيداً من الوقت.

المصدر: البيان