محمد الرميحي
محمد الرميحي
محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت

صراع الثقافات وفقر الأمم!

آراء

في تجمع كثيف من أهل الرأي من كل دول العالم تقريباً، قال السيد جاك شيراك، رئيس الجمهورية الفرنسية الأسبق، في خطاب له في مؤسسة اليونيسكو في باريس عام 2001، قال مختصراً المشهد الصراعي العالمي، إن القرن التاسع عشر شهد صراع القوميات والقرن العشرين شهد صراع الآيديولوجيات، وأما القرن الواحد والعشرون فسيكون قرناً يشهد صراع الثقافات. الأسبوع الماضي نظم المجلس الوطني للثقافة في الكويت ندوته السنوية حول «اقتصاديات الثقافة وأهميتها كقاطرة للتنمية» تناول المجتمعون فيها دور الثقافة بمعناها الأشمل في تطور أو تعويق المجتمعات، وقد تم طرح حزمة من الأفكار النيرة في نظري حول دور الثقافة في معظم مجالات الحياة الإنسانية، وأنها، أي الثقافة بمعناها العام، غير ملتفت إليها من معظم متخذي القرار في فضائنا العربي كما تستحق. فمعظم الصراعات التي نراها حولنا اليوم هي (صراع ثقافات من نوع ما)، وقد انتبه لفكرة الصراع الثقافي الممكن مفكرون عرب، حتى قبل صمويل هنتنغتون وكتابه ذائع الصيت «صراع الثقافات» أو فوكوياما في كتابه «نهاية التاريخ»، قبل ذاك انتبه للإشكالية مفكرون عرب منهم محمود أمين العالم، وأيضاً المهدي المنجرة وعبد الله العروي.

لماذا ما نشهد اليوم هو صراع ثقافات أو صراع هويات؟ لأن أكثر الانفجارات الصراعية في عالمنا اليوم هولاً وتدميراً، هو ما ينتجه الصدام بين فكرتين ثقافيتين متناقضتين ومتضادتين، من حيث القيم والمشاعر والمعتقدات والأفكار السياسية أو المذهبية أو القومية. هاتان الشحنتان المتناقضتان في حال صدامهما غير المقنن، يفجران الصراع (البارد) أو (الساخن) في عالمنا اليوم.

بعد انتهاء الحرب الباردة، وكانت في شكل منها صراعاً ثقافياً وفكرياً، برزت حروب (هويات وثقافات) على المستوى الدولي أو الإقليمي، بل وحتى في البلد الواحد تفجر ذلك الصراع في غياب مسطرة للتوافق بشكل (افتراسي) إن صح التعبير. الموقف من الهجرة والمهاجرين الذي يتجلى لنا اليوم في كل من الولايات المتحدة وأوروبا هو شكل من أشكال صراع الثقافات، فالثقافة الغربية قلقة، على أقل تعبير، من هجمة كبرى للمهاجرين من الجنوب، فالغرب يعيد حسابات الهجرة كما يحدث في الولايات المتحدة، وعدد من الدول الأوروبية، وما تعطل ظهور حكومة في ألمانيا مثلاً إلا ناتج عن الخلاف حول نسب الهجرة التي يمكن أن يسمح بها أو لا يسمح بها في ألمانيا في المستقبل. كل الضجيج السياسي في الولايات المتحدة جاء من خلال صراع لقوى ترغب بقوة في شيطنة ثقافات بعينها، سواء كانت دينية، أو بسبب لونها، بل إن الكثير من دول أوروبا يتوجه إلى اليمين اليوم، لرفض أو قفل الباب أمام ثقافات، تبدو لهم أنها «مختلفة عنهم ومهددة لوجودهم»! العدائية الثقافية تفجرت في شرقنا العربي على نطاق واسع على شكل حروب أهلية ضروس، وقد توفرت لها ظروف موضوعية عديدة، سواء في العراق أو سوريا أو ليبيا أو اليمن، بل وتفجرت بين مرجعية واحدة مفترضة هي المؤمنون بالدين الإسلامي، فنجد أن إيران المسلمة تشحن تابعيها بمكون قومي – ثقافي، للعداء للآخر المسلم. حرب اليمن هي استغلال مكون ثقافي أقلي للتخلص من مكون أغلبي في الوطن وطمس حقوقه، لأن هناك من يعتقد في إيران أن ظهور المهدي المنتظر يعطله عدم وجود نفوذ إيراني في مكة المكرمة! وهو اعتقاد ثقافي بالغ الخيال، بل وبالغ الخرافة، لكن له من يناصره مثل المكون الحوثي في اليمن، لذلك فإن الحرب في اليمن هي حرب ثقافية بمعنى من المعاني، أي إنها تحمل شحنة من المعتقدات للبعض، هي مضادة للعقل، ولكن البعض الآخر مروّج لها! وفي العراق فإن الصراع الثقافي يأخذ شكل تكتلات وجماعات مسلحة، على الرغم من المقاومة التي يبديها الكثيرون في العراق، فإن الطافح على السطح، هو استخدام المكونات الثقافية الفرعية كمطية للنفوذ الشخصي أو الإقليمي، وتسيُده على المكون الأكبر، وتعجز عن ردع هذا التوجه كل القوى الخيرة في العراق، لأنه يمتلك تلك المشاعر الأولية التي تتغذى على التخويف من الآخر من جهة، والترهيب من جهة أخرى والإغراء من جهة ثالثة. ليس ما يحدث في سوريا بعيداً عما يحدث في العراق؛ فبجانب المكون الثقافي الصراعي الداخلي، العرقي والمذهبي، تتدخل دول إقليمية من أجل إلحاق مجموعات عرقية أو إثنية بها، وتغريها للالتحاق إلى خارج حدود الدولة الوطنية، فتركيا من جهة وإيران من جهة أخرى، تقومان بجهد مكثف تحت شعارات مختلفة، لما يمكن أن يسمى «إلحاق الهويات» بها أو تحويل ثقافتها إلى «ثقافة مفترسة»، في أماكن معينة نجحت نسبياً، بسبب فشل أو ضعف الدولة الوطنية، وجزئياً بسبب إغراءات افتراضية لتلك الهويات. صراع الهويات الثقافية يعرض الدولة الوطنية العربية إلى الإنهاك، مما يتسبب بتقسيمها في بعض الأوقات، وإفقارها في أوقات أخرى، التقسيم واضح في السودان، ليس بين شمال وجنوب، بل وتتعرض الكيانات الجديدة (الشمال والجنوب) إلى تفكيك داخلي على مستوى الهويات الثقافية الفرعية، ذلك يحدث في العراق، وما أحداث الأكراد في الأشهر الأخيرة، إلا مثال على ذلك، أكراد سوريا وتقسيماتها العرقية والإثنية يعرضان سوريا إلى احتمال جدي في التفكيك، أما في ليبيا، فليست بخافتة تلك الأصوات التي تنادي بعودة الثلاثية الليبية التي أخرجت تاريخياً الاتحاد الليبي إلى الوجود، طرابلس وبرقة وفزان! وأيضاً على تخوم الهويات الثقافية الفرعية، بل حتى في لبنان البلد الصغير جغرافياً، بسبب فرض هوية تابعة إلى الخارج، كما يتبع حزب الله إيران، يفكر البعض علناً هروبا من السيطرة الخفية، في استقلالية إدارية للمكونات الثقافية المختلفة، خاصة المسيحية! قلت إن صراع الهويات والثقافات الفرعية يفرز أيضاً أزمات وصراعات اقتصادية، المثل الأكثر وضوحاً في إيران مؤخراً، فقد انتفضت المناطق المحرومة ذات الهوية المختلفة عن الفرس، مثل البلوش والأحوازيين، والآذاريين، الذين شاركوا في المظاهرات الأخيرة بكثافة، بسبب حرمانهم، الناتج من تحيز ثقافي ضدهم، وقد تحول إلى تحيز اقتصادي! فالصراع الثقافي الذي يتفاقم على سطح الكرة الأرضية يزيده اضطراباً التقدم الهائل في التقنية الرقمية، التي تستطيع أن تروّج إلى ثقافة بعينها أو سلوك، وتفتت المجتمع إلى شرائح اجتماعية متناقضة، وتلهب في نفس الوقت مشاعرهم أو تغريهم لاتخاذ موقف معين تجاه قضية بعينها. لقد تم الكشف مؤخراً عن برنامج إلكتروني لعب دوراً مهماً في الانتخابات الأميركية العام الماضي، وهو برنامج يرسل رسائل بعينها لمجموعات محددة لحثهم على اتخاذ موقف محدد، على سبيل المثال كشف أن ذلك البرنامج يرسل رسائل لمحبي الاحتفاظ بالأسلحة الشخصية، وهم عدد كبير في الولايات المتحدة، تقول، رسالة خاصة جداً: «هيلاري كلينتون تستعد لمنع تراخيص السلاح الشخصي فلا تنتخبها»، وتظهر هذه الرسالة لبضع ساعات ثم تختفي من شاشة المرسل إليه! إنها شكل من أشكال التكييف الثقافي لجماعات كبيرة لاتخاذ خطوات بعينها على الأرض باستخدام التقنية، كما تستخدم هذه التقنية اليوم في فضائنا للترويج إلى الكراهية والتخويف من الآخر، بل استقلال بعض القيم الثقافية للحط من مكانة الدولة الوطنية.

آخر الكلام: المعركة الحقيقية للدولة الوطنية اليوم في شرقنا العربي، هي العمل الجاد على تشبيك هوية وطنية جامعة منفتحة على قبول الاختلاف المقنن، وتفعيل أدوات سيادة القانون وحرية الرأي وتوزيع ثمار التنمية بالعدل.

المصدر: الشرق الأوسط