خالد الدخيل
خالد الدخيل
كاتب و محلل سياسي سعودي

كذبة الحرب الكبرى

آراء

إدعاء الشيء ونقيضه معضلة يقع فيها البعض أحياناً بوعي محسوب. هناك من يتورط في المعضلة من دون وعي بحالة التناقض، التي تنطوي عليها. أصحاب الحسابات غالباً من رجال السياسة. والبعض الثاني أناس لا علاقة لهم بالسياسة. الأمين العام لـ «حزب الله»، حسن نصرالله، من البعض الأول. الرجل ذكي جداً. يوظّف ذكاءه بشكل فاقع أحياناً. يملك كاريزما، ومعها مهارة في الخطابة، يحسده عليها كثيرون. مأزق نصرالله أن انتماءه وظروفه لا تسمح له بأن يكون أكثر من رئيس تنظيم مسلح. دوره ووظيفته، وتوقيتهما، لم يسعفاه كثيراً في الاستفادة من صفاته القيادية أبعد من ذلك. هو رجل دين يقود تنظيماً يجمع بين صفة الحزب وصفة الميليشيا. ودوره هذا ليس لحسابه، ولا لحساب بلده، وإنما لحساب بلد آخر. يؤمن بالمذهبية، والحزب الذي يقوده يكاد أن يكون نموذجاً مثالياً في المذهبية. ولأنه كذلك ربط دوره الديني والسياسي مبكراً بإيران التي تعرف نفسها وتحدد هويتها على أساس مذهبي بنصوص دستورية حاكمة، وتنهج في سياستها الإقليمية، انطلاقاً من ذلك، نهجاً مذهبياً في تحالفاتها وأهدافها.

على صلة بهويته المذهبية وجذرها الاجتماعي فإن حسن نصرالله يعرف بأنه «سيّد»، مما يُعرف في المجتمعات العربية بطبقة السادة. ومع ذلك شنّع عام 2006 في خطاب شهير له على الزعيم اللبناني وليد جنبلاط كون لقبه الـ «بيك»، قائلاً «بيي ما كان بيك، وجدي ما كان بيك، ولا ابني حيكون بيك». هذا ملمح بسيط للتناقض المشار إليه. فلقب «السيد» كما لقب «البيك» يشير إلى تراتبية طبقية جذرها الأول اجتماعي عنصري. لكن نصرالله بحكم مذهبيته الدينية اعتبر أن لقب «السيد» يحمل دلالة الشرف والوجاهة على أساس ديني، وأن لقب «البيك» يحمل معنى الوجاهة على أساس اجتماعي، إقطاعي.

هذا على المستوى اللبناني. لكن الحزب الذي يقوده نصرالله ليس لبنانياً إلا بالأوراق الرسمية. عملياً وسياسياً هو حزب إيراني. مرجعيته الأيديولوجية والسياسية في إيران وليس في لبنان، وتمويله وتسليحه يأتيان من إيران. وهو ما يكرره ويؤكد عليه الأمين العام للحزب. يصف الحزب نفسه بأنه مقاوم، لكنه، بحكم مرجعيته وأهدافه، حزب طائفي. والمقاومة لا تجتمع مع الطائفية في نهج واحد، ولا هدف واحد. وهذا ما يكشفه الدور الإقليمي للحزب كذراع في الاستراتيجية الإيرانية. هناك شيء آخر.

إليك الآن بعض الأمثلة على حجم التناقض في رؤية نصرالله وحزبه على المستوى الإقليمي. وهي أمثلة مأخوذة من الحديث المطوّل له الأسبوع الماضي إلى قناة «الميادين» (وهي قناة إيرانية)، خصّصه للدفاع عن إيران في خضم التظاهرات التي تشهدها هذه الأيام. سُئل نصرالله ماذا ستفعل المقاومة الآن في موضوع القدس؟ جاءت إجابته غامضة لم تتجاوز الحديث عن لقاء مع جميع الفصائل الفلسطينية حول الانتفاضة ومواكبتها. لكن، لماذا لا تقدم إيران لهذه الفصائل المنخرطة حقاً وبشكل حصري في المقاومة ربع الدعم الذي تقدمه لـ «حزب الله» الذي ترك المقاومة منذ 2006؟ سيقال إن الحصار الإسرائيلي لا يسمح بذلك؟ لكن هناك حصاراً حول خطوط إمدادات الحوثيين في اليمن، ولم يمنع هذا إيران من المغامرة بدعم هذه الميليشيا بالأموال والعتاد والمدربين، وبأنواع الأسلحة كافة، وصولاً إلى الصواريخ الباليستية البعيدة المدى. الفرق يصنع السياسة. فهدف إيران الاستراتيجي ليس مواجهة إسرائيل، بل إقامة منظومة سياسية شيعية في المنطقة تكون إحدى ركائز النظام الإقليمي. و «حزب الله» ليس حليفاً للفصائل الفلسطينية، لأنه ليس حليفاً لإيران، وإنما ذراع لها. وليس بوسع نصرالله، والحال كذلك، إلا أن يكون مثل إيران غامضاً في موضوع المقاومة.

هنا نأتي إلى مثال كذبة الحرب الكبرى، ودائماً في سياق كذبة المقاومة. سئل نصرالله: «ربما أن من أهداف إسرائيل المقبلة حرباً جديدة على غزة. أنتم ألزمتم أنفسكم بمحور مقاومة… وقلتم إن عندكم صواريخ تصل إلى باب المندب، وصواريخ تصل إلى ما بعد حيفا. هل يمكن أن نتوقع في المرحلة المقبلة أن قوات من سورية أو «حزب الله»، أو من أي طرف في محور المقاومة، ستدخل في المعركة داخل الأراضي الفلسطينية؟ أجاب نصرالله بالنص «شوف فيه نقاش. من الآن لا يستطيع الإنسان أن يلزم نفسه، أو يلزم كل قوى المحور بخيار معين أو بقرار معين. فيه شيء عم يتحضر في المنطقة. ترامب يأخذ الأمور في اتجاه، إما استسلام أو مواجهة كبرى. الشعب الفلسطيني لن يستسلم». ثم يضيف «المطلوب من محور المقاومة… ليس حرباً كلاسيكية. بالنسبة لنا كحركة مقاومة الزمن مهم. (يدخل في ذلك) الاستفادة من إنهاك العدو، ومن الظروف، وتراكم الإنجازات والانتصارات». يستفيض في شرح أن المقاومة حركة وليست دولة كلاسيكية مطلوب منها الدخول في حروب كلاسيكية. ويخلص من ذلك إلى أن «مشروعنا ليس هو الحرب. مشروعنا هو المقاومة. وهناك فرق. لكن ترامب ونتانياهو قد يدفعان المنطقة إلى حرب.. قد تكون هذه الحرب على غزة، أو على سورية أو على لبنان. وعلى حركات المقاومة، ودول محور المقاومة، أن تحضر، وأن تهيئ نفسها لهذه الحرب. وأن تفكر، وأن تتحضر جيداً كيف تحوّل الحرب المقبلة، إن حصلت، من تهديد تاريخي إلى فرصة تاريخية». وهو يعني بالفرصة التاريخية «ما هو أبعد من الجليل»، أي تحرير القدس، كما قال.

عند هذه النقطة سئل نصرالله: هل يعني هذا أن أي اعتداء على غزة أو سورية هو اعتداء عليكم، وبالتالي ستردّون بشكل أو بآخر؟ جاءت إجابته مخاتلة. يقول: «هذا ما عادش اسمه الحرب الكبرى التي إن فرضت (فعلينا أن) نحول التهديد إلى فرصة. هذا صار له علاقة بقواعد الاشتباك. وقواعد الاشتباك تظل أحياناً محكومة بالظروف. وهذا أمر خاضع دائماً للمراجعة. ولذلك لا نستطيع أن نطلق فيه وعوداً حاسمة». الشيء الكبير الذي يتحدث عنه كما يقول «ويجب أن نتحضر له هو في ما لو أريد فرض حرب كبرى في المنطقة». سؤال: «حرب كبرى يعني على غزة وسورية ولبنان معاً»؟ جواب: «لا تعرف أين تبدأ الحرب، ولا كيف تتدحرج، ولا كيف تتطور».

لاحظ هنا غموض نصرالله ومراوغته. وهو غموض ينطوي على منطق عقلاني لا يُلزمه بشيء، ويسمح له في الوقت نفسه بأن يكون المتحدث باسم المقاومة. ثم لاحظ أن هذا المنطق العقلاني لم يكن وارداً عندما بدأت الثورة في سورية. بادرت إيران منذ اليوم الأول، ونصرالله تحديداً، بالانخراط في الحرب دفاعاً عن الرئيس السوري بشار الأسد. وغامروا في سبيل ذلك بكل شيء تقريباًَ. ماذا حصل للعقلانية؟ لماذا غابت لدى «محور المقاومة» أمام السوريين، وتحضُر بشكل لافت أمام العدو؟ هل لأن الشعب السوري أضعف من الإسرائيليين؟ أم أنه العدو الطائفي المباشر قبل الإسرائيليين؟ أم كلاهما معاً؟

هدف العقلانية تسويق فكرة الحرب الكبرى كذريعة لعدم فعل شيء للفلسطينيين، انتظاراً لها. الأولوية لمشروع إقامة المنظومة الشيعية الإقليمية، لكنه لا يزال في بدايته، ويواجه تحدّيات كبيرة. والانخراط في مقاومة حقيقية ضد إسرائيل سيجهز على هذا المشروع. يبدو أن نصرالله شعر بضغط التحدي الكبير الذي يمثّله اعتراف ترامب بالقدس عاصمة لإسرائيل لـ «محور المقاومة». وللهرب من ذلك جاء بفكرة الحرب الكبرى. لكنها بالمواصفات التي حدّدها لن تقع. فإسرائيل لن تهاجم غزة وسورية ولبنان في وقت واحد. هي ليست في حاجة إلى ذلك، وما حصل في 1967 لن يتكرر. المضمر في حديث نصرالله هو هجوم إسرائيلي أو أميركي على إيران. وهذا هو التحدي الذي يخشاه نصرالله، لأنه يقضي على مشروع المنظومة الشيعية. همّ نصرالله إذاً محصور في هذا المشروع، وليس في المقاومة. لكن تعاون أميركا مع إيران في العراق، وصمتها عن دور طهران والحزب في سورية يقول إن شيئاً من هذا لن يحدث. وهو ما يجعل من الحديث عن «المقاومة» و «الحرب الكبرى» ضرورياً للتغطية على ما يحدث في سورية، ولإبعاد شبهة التواطؤ لدى «جمهور المقاومة». والتكاذب في كل الأحوال إحدى ركائز الثقافة السياسية العربية، ونصرالله بزّ غيره في هذا المجال.

المصدر: الحياة