من الزبير والمحمرة إلى البحرين ثم الخبر.. قصة كفاح

آراء

يعتبر المرحوم محمد الخزيم (بشد الياء) من الشخصيات البارزة في تاريخ مدينة الخبر بشرق المملكة العربية السعودية من تلك التي استوطنتها مبكرًا وعملت في سبيل نهضتها وازدهارها. لكن المؤسف هو أن رجلاً مثله لم تسلط الأضواء على حياته واسهاماته الجليلة، بل لم تصدر أي مؤلفات توثق سيرته للأجيال الجديدة التي لم تعاصره باستثناء كتاب يتيم صدر مؤخرًا من تأليف الأستاذ عبدالعزيز البدر تحت عنوان «محمد الخزيم.. شاهد على بناء الخبر».

لقد كنت من المحظوظين الذين عاصروا هذه الشخصية العصامية المكافحة والمثقفة في زمن كان عدد المثقفين فيه قليلاً. فقد كان بيته العربي القديم على بعد بضع خطوات من بيت والدي في وسط خبر الخمسينات والستينات، قبل أن ينتقل مع أسرته إلى فيلا فخمة بناها من حلال ماله في شمال المدينة، فكنت وصحبي نراه في خروجه ودخوله لمنزله وفي ذهابه إلى عمله أو إلى مسجد الحي لأداء الصلاة. وأتذكر كم كنا مبهورين وقتذاك بشخصيته الأنيقة الارستقراطية وطوله الفارع وبياض بشرته المائلة للحمرة وملابسه النظيفة المكوية لأن من بمثل هذه المواصفات كانت أعدادهم قليلة في تلك الفترة من تاريخ الخبر وهي في بواكير نموها وتوسعها وازدهارها.

كما كنت محظوظًا لأني زاملت ولدين من أبنائه في المدرسة: أولهما رياض الذي زاملته في المرحلة الابتدائية والذي دفعه حماسه العروبي للانضمام إلى الكفاح المسلح الفلسطيني فاستشهد في إحدى عمليات الجبهة الشعبية الديمقراطية في غور الأردن في عام 1969، ودفن في مقبرة مخصصة لشهداء معركة الكرامة على سفح تل من تلال عمان، وثانيهما عبدالعزيز الذي واصل دراسته وتخرج معي من الثانوية في أواخر سبعينات القرن الماضي واختار باكستان كمكان لدراسة الطب إلى أن صار طبيبًا عامًا.

من ابنيه عرفت الكثير عنه بعد أن كانت معلوماتي لا تتجاوز ما كان يعرفه عوام الناس آنذاك من أنه مدير إقليمي لبنك الرياض، ثاني أكبر مصرف وطني في المنطقة الشرقية من بعد البنك الأهلي التجاري، وأنه إضافة إلى ذلك عضو في المجلس البلدي لمدينة الخبر والذي كانت عضويته تتم وقتذاك بالتعيين من قبل أمير المنطقة الشرقية سعود بن عبدالله بن جلوي.

من كتاب الأستاذ البدر، ومما تختزنه الذاكرة نستقي المعلومات التالية عن المرحوم الخزيم الذي وافاه الأجل المحتوم في فجر يوم 18 سبتمبر 2012 عن عمر ناهز 90 عامًا وصلي عليه في جامع النور بالخبر ثم ووري الثرى في اليوم نفسه.

ولد محمد الخزيم (أبو رياض) في الزبير في عام 1918 الموافق لسنة 1337 للهجرة ابنا لرجل من مواليد البكيرية في القصيم هو الشيخ عبدالعزيز بن موسى بن علي الخزيم ولسيدة من مدينة عنيزة بالقصيم أيضا. أما سبب ميلاده في الزبير فهو أن أسرته هاجرت في حدود العام 1905 إلى هناك طلبًا للرزق على نحو ما فعلته أسر نجدية كثيرة من تلك التي نزحت من موطنها في نجد إلى العراق وبلاد الشام في مطلع القرن العشرين. وأما جده فقد ارتبط بعلاقات مبكرة بالملك عبدالعزيز طيب الله ثراه، بل قام باستضافة جلالته ورجاله في مزرعته بالبكيرية أثناء استعدادات الملك المؤسس لمحاربة قوات ابن رشيد حاكم حائل في معركة البكيرية الشهيرة التي كانت الغلبة فيها للملك وجيشه.

في الزبير شق والده طريقه حتى صار واحدًا من أعيانها وتجارها العاملين في تجارة الحبوب، وكان يمتلك فيها أربع سفن شراعية لتصدير الحبوب إلى البحرين والكويت والأحساء والقطيف وقطر ودبي تحت قيادة النوخذة البحريني عيسى. أما الابن محمد الخزيم فقد انصرف إلى طلب العلم ملتحقًا بإحدى مدارس البصرة إلى أن أنهى دراسته الابتدائية والإعدادية بنجاح. على إثر ذلك أرسله والده إلى البحرين ليعمل لدى وكيله في المنامة سليمان الحمد البسام لأن الأخير كان يتولى في حينه تصريف ما كان يرسله إليه عبدالعزيز الخزيم من الزبير من حبوب في أسواق الخليج.

في البحرين المتقدمة آنذاك على سائر دول المنطقة في التعليم النظامي عاش محمد الخزيم أربع سنوات تمكن خلالها من إنهاء دراسته الثانوية واستلام شهادتها من يد مدير معارف حكومة البحرين المرحوم أحمد علي العمران، إلى جانب اكتسابه الكثير من المعارف العامة وأسرار التجارة كنتيجة لعمله مع البسام. ولأنه كان يتحدث الانجليزية بطلاقة تم توظيفه في شركة نفط البحرين (بابكو) في وظيفة إدارية براتب 3 روبيات في اليوم.

هنا حدثت النقلة التي غيّرت مجرى حياته، حيث التقى في بابكو بطريق الصدفة بأحد معارفه السابقين وهو المرحوم عبدالرزاق النصار الذي صار لاحقًا من كبار رجال الأعمال في السعودية. اقترح عليه الأخير أن يستقيل من بابكو ويأتي معه إلى الظهران للعمل لدى شركة أرامكو التي كانت قد اكتشفت النفط في المنطقة الشرقية في عام 1938. وهكذا وافق الخزيم، الشاب الطموح الباحث عن فرص وظيفية أفضل، على اقتراح زميله ورحل إلى الظهران في أواخر عام 1940 حيث وظفته أرامكو براتب 4 ريالات في اليوم وعينته مسؤولاً عن مخازنها.

وتشاء الظروف في هذه الفترة أن تصل إلى إيران قيادة الجيش الامريكي ضمن خطط الاستعداد لتداعيات الحرب العالمية الثانية على منطقة الشرق الأوسط. ولأن الأمريكان لم تكن لديهم وقتذاك معلومات كافية عن المنطقة فقد استعانوا بشركة أرامكو وطلبوا منها شخصًا يجيد الانجليزية والعربية والفارسية لمساعدتهم. هنا وقع اختيار رئيس أرامكو آنذاك السيد أوليفر على الخزيم بسبب مؤهلاته اللغوية وخبراته ليذهب إلى إيران ويعمل كمدير مدني لمكاتب الجيش الأمريكي في المحمرة. وبالفعل ذهب الخزيم إلى المحمرة، وعمل مديرًا لمكاتب العمل والعمال والمقاولات التابعة للجيش الأمريكي.

ومن خلال وظيفته تلك ساهم في تذليل الكثير من العقبات والمشاكل، وكان على رأسها توفير العمالة العربية من المحمرة بديلاً عن العمالة الإيرانية التي كانت كسولة بسبب تعود أفرادها على تدخين الترياق المخدر. ويعزى نجاح الخزيم في هذه المهمة إلى علاقة صداقة ربطته بالشيخ عبدالله الكعبي من أيام دراستهما معًا في البصرة، علمًا بأن عبدالله الكعبي هو أحد أبناء الشيخ خزعل الكعبي أمير الأحواز والمحمرة الذي كان الفرس قد أطاحوا به واستولوا على أراضيه بالغدر والخيانة.

ظل الخزيم يعمل مع الجيش الأمريكي في المحمرة حتى نهاية الحرب العالمية الثانية وانتصار الحلفاء في عام 1945. وكان خلال تلك ال

فترة يحصل على مرتب كبير وصل إلى ستة آلاف تومان (أي ما كان يعادل وقتذاك 3200 ريال سعودي) بالإضافة إلى السكن ومكافآت الإجازات ومصاريف التنقلات.

بعد عودته من إيران اتجه الخزيم إلى طرق أبواب العمل الحر، وكان همه الأول هو خدمة مدينة الخبر التي كان له فيها منزلاً من بين أول أربعة منازل عمرتها شركة أرامكو. وبالرغم من أنه لم يكن ضمن المحبذين للوظيفة الحكومية فقد قبل أن يكون في عداد أعضاء أول مجلس بلدي للخبر إلى جانب كبار رجال الأعمال في المدينة مثل:

علي بن عبدالله التميمي، عبدالعزيز بن حمد القصيبي، محمد المانع، حمد بن علي الدوسري، عبدالرزاق النصار، محمد عبدالمطلوب، حمد بن عيسى الدوسري، راشد بن محمد الدوسري، عبدالله بن عبدالعزيز الدوسري، بالإضافة إلى مدير بلدية الخبر المرحوم عبدالرحمن الشعوان. ومن خلال هذا المجلس، الذي اختار أعضاؤه الخزيم بالإجماع ليكون رئيسًا لهم، قدم أبو رياض خدمات جليلة غير مسبوقة لمدينته لاتزال آثارها باقية إلى اليوم. فقد شارك في تخطيط المدينة تخطيطًا حديثًا يراعي توسعها مستقبلاً بالتعاون مع شركة أرامكو والدوائر الحكومية المعنية. كما كان وراء فكرة خلق شبكة حديثة للمجاري والصرف الصحي في الخبر، فكانت تلك الشبكة، التي دعمت أرامكو عملية تنفيذها بمبلغ 20 مليون ريال، الوحيدة من نوعها على مستوى السعودية آنذاك.

وحينما توالت الخسائر على بنك الرياض بسبب سوء الادارة والهدر استنجد وزير الدولة للشؤون المالية والاقتصادية الشيخ عبدالله بن عبدالرحمن بن عدوان في عام 1962 بالخزيم وعينه مديرًا إقليميًا للبنك المذكور ليصحح الخلل ويضع بنك الرياض على خط النجاح وتحقيق الأرباح. فشمر الرجل عن ساعديه واستنفر خبراته المتراكمة وعلاقاته المتشعبة الوثيقة مع كبار الاعيان ورجال الأعمال والمسؤولين في المنطقة الشرقية من أجل انتشال البنك من الخسائر، بادئًا بإصلاح الخلل في فرع البنك بالخبر ومن ثم بقية الفروع في الدمام والقطيف ورأس تنوره والهفوف والخفجي.

حيث تخلص من الموظفين الكسالى قليلي الخبرة واستقطب كفاءات محلية طموحة من المصارف الأخرى مع رعايتهم والتواصل معهم والأخذ بمقترحاتهم، وتبنى شعار «يسروا ولا تعسروا» وسياسة الباب المفتوح والمرونة في العمل والحزم تجاه التسيب والهدر.

من جهة أخرى يعتبر الخزيم صاحب فكرة تأسيس أول فرع نسائي للبنوك في السعودية، وذلك حينما عمل على استصدار موافقة الجهات الرسمية لافتتاح فرع نسائي لبنك الرياض في الخبر في عام 1981، فزاول الفرع المذكور مختلف الأعمال المصرفية بقيادة 8 سعوديات و3 موظفات غير سعوديات من بعد تدريبهن لمدة 3 أشهر. وكان الخزيم وقتذاك يراقب أعمال الفرع ويدعمها من خلال حث معارفه من رجال الأعمال على افتتاح حسابات مصرفية لزوجاتهم وبناتهم، وكذلك من خلال الاتصال بكليات ومعاهد البنات كي يتم دفع رواتب المنتسبات ومكافآتهن عبر حسابات بنكية في الفرع النسائي.

وبينما كان أبو رياض يعمل مديرًا إقليميًا لبنك الرياض دخل في مشاريع خاصة فأسس شركة للمقاولات مع اثنين من رجال الأعمال المعروفين في الخبر هما محمد المانع ومحمد العثمان، وتملك مزرعة في الظهران كانت مكانا للكمأة (الفقع) ومنطقة لصيد الأرانب والظباء يرتادها شيوخ البحرين للقنص. كما شارك في العديد من الأنشطة الاجتماعية ذات الصلة باستقبال ملوك البلاد في زياراتهم للمنطقة الشرقية أو استقبال ضيوف المنطقة من حكام البحرين وقطر والكويت، وقاد عددًا من الوفود الشعبية والتجارية إلى الخارج، نذكر منها الوفد الشعبي الذي ذهب إلى القاهرة لمقابلة الرئيس عبدالناصر وتسليمه مساعدات السعوديين لمجاهدي الجزائر، والوفد الشعبي الآخر الذي سافر إلى الأردن لتوصيل مساعدات الشعب السعودي للمجاهدين الفلسطينيين، والوفد التجاري الذي سافر إلى السودان لملاقاة الرئيس إبراهيم عبود بهدف تعزيز العلاقات الاقتصادية، والوفد التجاري الذي زار كوريا الجنوبية.

ومن مساهمات الخزيم المشهودة دوره في دعم تعليم المرأة والذي تجلى في تأسيسه لجمعية فتاة الخليج بالخبر في عام 1959 بالاشتراك مع ثلة من المسؤولين ورجال الأعمال مثل: عبدالعزيز بن ماضي، عبدالعزيز القصيبي، محمد المانع، عبدالرحمن الشعوان أحمد بن راشد المبارك، وأمير الخبر وقتذاك عبدالرحمن بن عيسى الرميح. ولاتزال هذه الجمعية، التي كانت باكورة أعمالها افتتاح مدرسة للبنات، تمارس نشاطها النسوي إلى اليوم.

ولم تكن الرياضة بعيدة عن اهتمامات الخزيم، إذ كان رحمه الله من مؤسسي نادي الشعلة في الخبر، الذي اختار هذا الاسم تيمنًا بشعلة النفط التي كانت تضيء سماوات المنطقة الشرقية بعد اكتشاف الزيت في أرضها المعطاءة سنة 1938، قبل أن يدمج النادي مع غريمه نادي الوحدة ليشكلا نادي القادسية الحالي الذي اختار الخزيم رئيسًا فخريًا له في عام 1963، علمًا بأن الخزيم قاد فريق نادي الشعلة لكرة القدم في أول زيارة خارجية له، وكانت إلى البحرين وذلك لملاقاة فريق نادي البحرين في مباراة ودية جرت بينهما في المنامة بحضور الحاكم ومعظم رجال الأعمال النجديين المقيمين في البحرين مثل: سليمان الحمد البسام، محمد عبدالله القاضي، عبدالعزيز حسن القصيبي، إبراهيم ويحيى السليم، عبدالعزيز العلي البسام، حمد سليمان الروق، وعبدالله الزامل.

ومن مساهمات الخزيم أيضا مشاركته لآخرين في تأسيس جريدة اليوم وهي أول صحيفة يومية تصدر في المنطقة الشرقية بانتظام. إذ جند لها إمكانيات بنك الرياض إلى أن تمكنت من تجاوز سنوات التأسيس الصعبة ووقفت على قدميها كصحيفة سعودية رائدة تحاكي زميلاتها في المهنية والانتشار.

ولعل مما يجدر بنا ذكره ونحن نتحدث عن هذه القامة الكبيرة من بناة المنطقة الشرقية أن الخزيم ارتبط بصداقة مع المغفور له الملك سعود بن عبدالعزيز بدأت خيوطها الأولى بلقائه مع جلالته في ألمانيا التي كان يزورها مع محمد المانع. في هذا اللقاء اصطحب الملك الخزيم والمانع في رحلة صيد في الغابات الألمانية، ثم أهدى لكل منهما جهاز تلفزيون فكانا أول جهازين يدخلان السعودية قبل انطلاق البث التلفزيوني. وبعد عودته من تلك الرحلة استأذن الخزيم الملك سعود للسفر إلى العالم الجديد فسمح له، وسافرإلى الولايات المتحدة حيث زار مقر أرامكو في سان فرانسيسكو والتقى بأحد أشهر رؤسائها الأمريكيين وهو توماس بارقر.

وأخيرًا فإن «أبو رياض» كان رائدًا من رواد العمل الخيري ليس في المنطقة الشرقية فحسب وإنما على مستوى السعودية ككل. وآية ذلك دعمه لمكتبة عائلة الخزيم بالبكيرية، وجمعية البر في المنطقة الشرقية، وجمعية البر بمكة المكرمة، والجمعية الخيرية لرعاية الأيتام بالمنطقة الشرقية، ناهيك عن قيامه بإعادة بناء وترميم مسجد النور في الخبر مع سكن الإمام ومصلى النساء.

رحم الله أبا رياض رحمة واسعة، فقد كان سابقًا لعصره في علمه وثقافته وأفكاره التنويرية ومبادراته الانسانية.

المصدر: الأيام