رضوان السيد
رضوان السيد
عميد الدراسات العليا بجامعة محمد بن زايد للعلوم الإنسانية - أبوظبي

تجدد الثورة المصرية ومصائر الإسلام السياسي

آراء

أنهى الشباب المصريون حكم «الإخوان المسلمين» للبلاد ورئاسة الدكتور مرسي بعد عامٍ على بدئه. وكان نزولهم إلى الساحات والميادين بقيادة حركة «تمرد» ساحقاً إلى الحدّ الذي دفع الجيش المصري للتضامن معهم، وتأييد مطالبهم في المسير إلى انتخابات رئاسية مبكرة، والدخول في مسار انتقالي مختلف عن السابق. فقد وصلت أعدادهم في اليومين الأولين إلى ما يزيد على العشرين مليوناً؛ بينما استطاع «الإخوان» حشد المليون في سائر النواحي. وبقدر ما كانت الأعداد حاسمةً، كان حاسماً أيضاً إصرار الجيش على الاستجابة لإرادة الناس، وهو المسلك نفسه الذي سلكه بعد ثورة 25 يناير 2011.

لقد بدأت المشكلة بعد ثلاثة أشهُر على الموجة الثورية الأُولى، عندما شعر الشبان أن الأمر مُرتَّب، وتُركوا وحدهم في الشارع، فاندفعوا للاصطدام بالشرطة ثم الجيش. وظهرت لديهم الفكرة القائلة بأن «الإخوان» اتفقوا مع الجيش والأميركيين على تسلم السلطة بمفردهم. وجاءت الاستفتاءاتُ والانتخابات المتوالية ووصول مرسي إلى الرئاسة لتثبت هذا الانطباع. وفي الشهور الأُولى بدا كأنما سلَّم الجميع بالسيطرة الإخوانية، وتشكّلت أحزاب مُعارِضة ما كان من بينها حزب قويٌ للشباب. ثم توالت وجوه الفشل الإخواني في إدارة الشأن العام، من الاقتصاد إلى التعامل مع مؤسسات الدولة، إلى السياسة الخارجية. وعندما بدأ نشاط «تمرد» لجمع تواقيع من أجل إقالة مُرسي قبل ثلاثة أشهُر، ما كانت فئة معتبرة من فئات الشعب المصري راضيةً، بل كان الراضون فقط متحزبو «الإخوان»، و«حماس»، والأميركيون! فقد اصطدم مرسي بالقضاء والإعلام والجهاز الإداري للدولة والشرطة والجيش والأزهر والأقباط. فلماذا فعل «الإخوان» ذلك، وهل فعلوه بوعي وبناءً على خطة؟
هناك كثيرون يقولون إنه كان سوء فهم وسوء تقدير، لكني أرى أنها كانت خطةً لتغيير الدولة والمجتمع تغييراً جذرياً. فـ«الإخوان» حركة ثورية في الأصل، وتقول بالتغيير الجذري، ويهمها بالدرجة الأُولى تنفيذ البرنامج الذي وضعته عبر عدة عقود، والذي لا يمكن تنفيذه إلا عبر الاستئثار بالسلطة. وهم يسمُّون برنامجهم: تطبيق الشريعة، لكن الشريعة عندهم صارت هي التنظيم، أي أن التنظيم توحَّد مع العقيدة وحلَّ محلَّها، وإيمانهم بذلك لا يتزعزع، لا من حيث الهدف، ولا من حيث الوسائل والأدوات! لذلك، ومن أجل الاستيلاء على الدولة لتنفيذ البرنامج، كان لابد من إزالة عدة عقبات وعوائق: القضاء والأمن والجيش والإعلام والأزهر وجهاز الدولة الإداري، أو ما صار مصطلحاً على تسميته بالعهد البائد أو الدولة العميقة. وقد فشلوا بالطبع في كل هذه المسائل، لكنهم ما توقعوا أن يأتي الثوران الساحق عليهم من جهة الشباب، الذين اعتبروا أنهم قضوا عليهم عندما نجحوا في وضعهم في وجه الشرطة والجيش منذ شهور الثورة الأولى.

ومع ذلك؛ فإن لفشل «الإخوان» بمصر طعماً خاصاً بالنسبة لنا نحن العرب، وبالنسبة للمسلمين السُنة عامة. يتصل هذا الطعم الخاص بما صار يُعرف بظاهرة الإسلام السياسي. وللظاهرة هذه جانبان: الجانب المتعلق بالتحولات الفكرية التي استطاعت حركات الصحوة الدينية إدخالها على الإسلام وفيه. وجانب أنظمة الطغيان والفساد التي سادت في بلدان الجمهوريات العربية طوال العقود الماضية. فالضغوط السياسية والثقافية التي تعرضت لها شعوب الأمة العربية، سواء من القوى الكبرى، أو من ظروف الحداثة، أو من تطورات الصراع مع إسرائيل، دفعت إلى السطح الفكرة القائلة بأنّ الإسلام دين ودولة، وبذلك فهو يملك نظاماً للحكم، جرى التعبير عنه لدى «الإخوان» ومتفرعاتهم بالحاكمية. وهذا يعني ولأول مرةٍ في تاريخ الإسلام السني: القول بدولة دينية ما عرفها تاريخنا الوسيط أو الحديث. فإذا أردْتَ -بحسب هذا الاعتقاد- أن تظلّ مسلماً فعليك القول والعمل على إعادة حاكمية الله إلى الأرض، والتعبير الشرعي عن ذلك: تطبيق الشريعة.

وفي الوقت الذي كان يجري فيه تسييس الصحوة الإسلامية باعتبار الاستيلاء على السلطة إكمالا للدين أو وسيلة لتحقيق مقتضياته، كانت الدولة الوطنية العربية بعد الاستقلال، تتحول إلى ديكتاتوريات وأنظمة شمولية مخيفة. فمع وفاة عبد الناصر عام 1970 أثر هزيمة مدوية في مواجهة إسرائيل عام 1967، زالت آخِر النماذج ذات الجاذبية لتلك الدولة، وآخِر وجوه شرعيتها، وصار العنف، والاعتماد على التوازنات والوظائف الإقليمية والدولية الركائز البارزة لسطوتها واستمرارها. وما بقيت معارضات لتلك الشموليات غير الإسلاميات الصاعدة، والتي اكتسبت جمهوراً ليس من أجل حاكمياتها فقط؛ بل ومن أجل معارضتها الجهادية والعقائدية لأنظمة الجمهوريات الخالدة. وهكذا تبلورت في أوساط مجتمعاتنا نحن العرب عقائديتان: عقائدية الأسد والقذافي وصدام وأمثالهم، وعقائدية «الإخوان» ومتفرعاتهم من جهة، وعقائدية الجهاديين من جهة ثانية. ولأن بعض الأنظمة العربية اعترفت نصف اعتراف بـ«الإخوان» ومتفرعاتهم نجاةً من الجهاديين، وجذباً لجمهورهم، فإن هؤلاء ما استطاعوا الصمودَ فقط؛ بل وبدأوا بسبب تنظيمهم يحظَون بقبول بعض فئات الطبقة الوسطى والمتعلمين المتدينين، نفوراً من الفساد السلطوي المستشري، وأمانةً منهم لما اعتبروه الإسلام الصحيح الذي ينبغي أن يسودَ المجتمع والدولة. وكما يصحُّ ذلك بالنسبة لمصر، يصح بالنسبة لبلدان عربية كثيرة، وخاصة بلدان الجمهوريات الوراثية الخالدة!

ومنذ أواسط الثمانينيات، بل منذ مقتل السادات على يد جهادي إسلامي، بدأتُ الاهتمام والكتابة في أمرين اثنين: العنف السياسي المتولد عن عنف الأنظمة من جهة، وعن عقائديات الحاكمية حتى وإن لم يظهر دائماً باعتباره قاتلاً مباشراً للخصوم الفكريين والسياسيين- والتشويه الذي يشكّل خطراً على الدين من جعل النظام السياسي ركناً من أركانه، وإدخال الدين عاملاً في الصراع على السلطة بحجة تطبيقه أو إكماله. الجهاديون يقولون إن الدين زال من الدولة والمجتمع وينبغي إعادته بالقوة. و«الإخوان» يقولون إن الدين لا يكتمل إلا بتطبيق شريعته المهجورة عن طريق الدولة! لذلك قلتُ إن «الإخوان» يريدون أن يتحكم تنظيمهم ومُرشدهم باسم الدين، مثل الولي الفقيه في إيران والذي لا يقوم الدين إلا به. ونحن في الإسلام السني، ومنذ القرن الرابع الهجري، يقول متكلمونا وفقهاؤنا إنّ الدولة ليست من أركان الدين، بل مؤسسة اجتهادية ومصلحية وتدبيرية لإدارة الشأن العام! وديننا كامل منذ قوله تعالى: «واليوم أكملتُ لكم دينكم»، وهو مطبَّق وسائد في المجتمعات، أما إدارةُ الشأن العام فهي حقنا نحن، نديرها وفق الأصلَحُ والأَنفعُ والأَولى، بحسب إدراكاتنا لحقوقنا ومصالحنا. ولذا فإن «الإخوان» والجهاديين، وكل القائلين بالتلازُم بين الدين والدولة، إنما هم منشقون في اعتقاد المسلمين السنة على الأقل. وليس معنى ذلك أنهم خارجون عن الدين، فنحن لا نكفر أحداً بذنب، لكن ليس من حقّهم الاستئثار بفهم خاص وجديد للدين وترذيل الآخرين، ولا الاستئثار بالسلطة باسم الدين!

لا يستطيع متحزبو الإسلاميين حكم أي بلد عربي أو إسلامي على الانفراد بسبب اعتقادهم الخاص أو ثرائهم أو حُسْن تنظيمهم. وأرجو أن يكون فشلُهم بمصر إزالةً للغُمة عن وجه مصر، وعن وجه الإسلام. لقد قام الشباب العرب بالثورات من أجل الحرية والحقوق، وليس لأن دين مبارك أو بن علي أو بشار ما أعجبهم! فليذهب الإسلام السياسي كما أتى، ولتعُد للثورات العربية روحها المدنية الأصيلة!

المصدر: صحيفة الاتحاد