كاتب عمود يومي في صحيفة الوطن السعودية
سأكتبه قبل أن تهرب بقايا رائحة الأيام من الذاكرة. وإن لم أكن مخطئا فقد كان يوم عرفة. كنت يومها مراهقا يجمع مع إخوانه وأخواته بقايا الأثاث المنزلي المتواضع البسيط، نسابق الدقائق كي ننهي انتقالنا إلى منزلنا الجديد في جنوب القرية. وبالتقريب، انتهت المهمة قبل صلاة العصر. لا زلت أتذكر لسان أمي وهي تقول “باروح أوادع مشرية”، فمن هي هذه “المشرية”؟ هي حماتها أم اليتيمين وشارية القلوب وبنت الأسرة النبيلة التي بكت علينا بمرارة وبنهر من الدموع الحمراء، لن أنساه ما حييت، وكأننا سنغادرها إلى بروكلين أو ساوباولو، لا إلى نصف كيلومتر في بيتنا الشعبي الجديد في جنوب القرية. لا زلت أتذكر جملتها الحزينة المؤلمة في وداعنا وهي تقول: “من عاده بيسمر معي في الباسوط….” وبالفعل كانت عمتي “مشرية”، زوجة عمي الراحل آخر من سكنه فما هي حكاية… الباسوط. ذلك الباسوط هو ذروة هندسة المعمار التي تضع في اعتبارها معنى العائلة وقيمها وواسطة ترابطها. هو للتقريب: استغلال هندسي مدهش للهندسة الفراغية للمساحة في وسط بيوت أعمامي الخمسة، ومن الدور الثالث لكل بيت، هناك باب ندلف منه إلى هذا الباسوط المسقوف. في هذا الباسوط الذي يتوسط منازل أعمامي، وندلف إليه من أبوابه الخمسة، شاهدت كل عماتي يرمين بأطفالهن الرضع على “البركة” كي يرضعن بالطابور من صدر أول “خالية”، ولهذا وبفضل هذا الباسوط لم نكن أبداً مجرد أسرة لنسب من “الجد”، بل من الحليب والرضاعة. في هذا “الباسوط” لا زالت صورة عمي “عوض” تتراقص أمامي وهو يستلم بيديه “قسمه” السمين جدا من أحد أعمامي ليلة عيد الأضحى في مشهد كان يتكرر في هذا “الباسوط” لألف ليلة وليلة، فمن هو الذي في كل قبيلتي من لا يعرف “عوض بن هيف” بيديه الطويلتين وعمقه المعرفي الذي كان متقدما على زمنه. في هذا “الباسوط” تعلمت من رضيعتي، أختي، وابنة عمي الغالية إلى قلبي، نورة بنت مسفر، أن للأيام أسماء متتالية، وكم كانت دهشتي، ومن فمها، أن الدنيا أسبوع يبدأ بالسبت وينتهي بالجمعة، وأن العام أشهر تبدأ برمضان وتنتهي بشعبان. بعدها ذهبت لأربع جامعات في ثلاث قارات ولكن: لا شيء يعدل جامعة “الباسوط” التي كتبت سطور حياتي الأولى في معمار هندسي إنشائي لا تمتلكه عائلة. كنا ندلف إليه من خمسة أبواب من الدور الثالث لمنزل كل عائلة، ويحزنني جدا جدا أننا ودعنا ذلك “الباسوط” وللأبد عصر يوم عرفة، وبعدها سأقول لكم كل ما يلي: سكنت بعد هذا “الباسوط” أغلى أجنحة فنادق هذا الكون في رحلات إمبراطورية فارهة. من طوكيو إلى باريس، ومن أوسلو إلى دبي. لكن ذاكرة الأعياد في العودة إلى ما يبقى في الذاكرة: غدا وبعد المغرب سأحاول زيارة ما تبقى من أعياد هذا “الباسوط” الحزين الذي تهدمت “جدرانه” وطاح سقفه إلى بقايا الذاكرة من صورة عمي عوض، وبكاء عمتي “مشرية”… وإلى ألق أول من علمني سيرة الأيام… أختي… نورة بنت مسفر.
المصدر: صحيفة الوطن السعودية