شاعر، ناقد، وأكاديمي مدرس مشارك ومرشّح لنيل درجة الدكتوراة في الأدب العربي جامعة جورجتاون / واشنطن دي سي
على الحفلة التي تتصورها هذه المقالة ألاّ يبدو بعيداً عن التحقق. بدأت القصة حينما قرأت طالبة سعودية في قسم الدراسات الأفروأميركية بجامعة هارفارد مقالة بعنوان: «العـُـشر الموهوب: The Talented Tenth» لوليام إدوارد دو بويز، الكاتب وعالم الاجتماع وأول أميركي أسود يحصل على الدكتوراه من هارڤارد، وأحد أبرز قادة الأميركان السود في مطلع القرن الـ20.
إلى بُويز يعود الفضل في إشاعة مفهوم «العشر الموهوب» على رغم أنه لم يكن من بنات أفكاره، بل لهنري ليمان مورهاوس، الناشط الاجتماعي الأبيض الذي آمن بالأهمية المحورية للتعليم في الترقي الاجتماعي للجماعة الأميركية السوداء. حينذاك، كان «فاعلو الخير» من البِـيض يعتقدون بأن تزويد السود بالعلوم التقنية سيكون كافياً للإسهام في تخفيف الطبقية الاجتماعية وفي تجفيف منابع العنصرية. المشكلة كانت، برأي مورهاوس وبويز، أن العلوم التقنية أو الصناعية لا توفر الأساس الفكري الضروري لبزوغ فئة اجتماعية رائدة وموهوبة تمثل عُـشر المجتمع الأسود التي تقود البقية إلى مستوى اجتماعي أفضل، بل تقتصر نتائج هذا النوع من العلوم على توفير يد عاملة لخدمة أهداف رأسمالية كان بويز من أشد منتقديها. وحده التعليم المتأسس على الفنون الحرة والكلاسيكيات والعلوم الإنسانية يمكن أن يكوِّن، والعبارات لمورهاوس، عقولاً مدربة تتميز بقوى إدراكية حادة تمكنها من التحليل والتعميم وإصدار الأحكام الموزونة جيداً في عبارات واضحة وقوية. هذه النوعية من العقول هي وحدها من ستـتمكن من الوصول إلى حقيقة أن التفوق الأبيض لم يكن سوى مرحلة تاريخية، وتاريخيتها تستلزم بشريتها، ومن هنا فيمكن للسود، في مرحلة تاريخية لاحقة، أن يشاركوا في التفوقِ أقرانـَـهم البيض. ستتمكن هذه العقول أيضـاً من اكتشاف النماذج الإدراكية التي تفرز قائمة الحلول المقترحة من البيض لاستيعاب السود، والتي تتأسس على رؤية عرقية للتميز الفكري الأبيض في مقابل التميز الجسدي الأسود، إضافة إلى رغبة سياسية/اقتصادية في وضع حدود إدراكية أمام السود تمنعهم من توجيه عدستهم الناقدة إلى المياكنيزمات المؤسسة لصناعة الطبقية الاجتماعية. وربما كان من المأمول كذلك أن يتمكن العُشر الموهوب «الأسود» من تفكيك مقولات اللون والعرق والجنس تماماً بعد أن يستبدلوا بها مقولاتٍ تحليلية تتأسس على فهمٍ أعمق لتركيبية الظاهرة البشرية.
الطالبة السعودية (فَـلنُـسَـمِّـها أحلام، تيمناً بروح هذه الكلمات) كانت تقرأ عن أميركا الطامحة إلى الانفكاك من عنصرية بدايات القرن الـ20، ولكنها كانت تفكر في العشر الموهوب السعودي في القرن الـ20، وبالتأكيد لأسباب مختلفة. لم يمنع اختلاف السياق والظروف أحلاماً من محاولة تطبيق فكرة «العشر الموهوب» على تعليم الجيل السعودي الجديد. أحلام كانت تدرك جيداً أن الأفكار ليست لها عصا سحرية تنقل المجتمعات من حالة إلى أخرى؛ فثمة عوامل أخرى دائماً ما يغفل عنها صانعو السرديات الكبرى وكُـتّاب التاريخ من الأعلى. مع ذلك، قررت أحلام أن ترمي حجراً في الماء.
فكرتها الأخيرة استقرت على اقتراح مشروع يسمى «برنامج ابتعاث العشر الموهوب» يقوم باستقطاب العقول المميزة في التخصصات الإنسانية، وأيضاً في ما يسمى تجاوزاً «العلوم البحتة»؛ إذ لم يعد من الممكن الفصل بينهما في تعليم حديث ذي منهجية عابرة للتخصصات. يستقطب البرنامج مرشحيه ليس بناء على نتائج الاختبارات المعيارية وحدها، والتي لا يمكن الوثوق بها دائماً، بل اعتماداً على مشاريع إبداعية يقدمها المرشحون المحتملون، إضافة إلى شرط أولي هو إتقان لغة غير العربية مع الاستعداد لتعلم لغة ثالثة في بلد الابتعاث. بعد الترشيح الأولي ينخرط الموهوبون في برنامج تعليمي بحثي، لربع سنة تقريباً، ينضمون فيه إلى فصول دراسية مكثفة في الإنسانيات وفلسفة العلوم، ويُطلب منهم تقديم أوراق علمية فردية في نهاية البرنامج. الأوراق الأكثر تميزاً برأي فريق من المحكمين العالميين يفوز أصحابها ببعثات دراسية للجامعات الأميز في تخصصاتهم حول العالم. اقترحت أحلام برنامجها. نـُـفِّـذ البرنامج بطرق إبداعية بعيدة عن الأساليب الإدارية التقليدية. بعد ست سنوات من تطبيق البرنامج، دعيت أحلام لإلقاء كلمة خريجي الدفعة الأولى من برنامج العُشر الموهوب. هذه الحفلة هي التي كان عليها ألا تبدو بعيدة عن التحقق، وهذه كانت كلمة أحلام: «أرحب بمجلس أمناء الجامعة السعودية للآداب والفنون، المؤسسة المستقلة التي أنشئت أخيراً لتكون الحاضنة العلمية للأكاديميين الجدد، خريجي برنامج ابتعاث العشر الموهوب. كلمتي الموجزة ستقتصر على عرض لـبعض مشاريع وبحوث التخرج لمبتعثي أميركا؛ لعلاقتي المباشرة بهن وبهم.
ثلاثة من خريجي معهد الفيلم الأميركي أكملوا آخر مراحل إنتاج فيلمهم الطويل الأول، ويتطلعون إلى عرضه في المهرجان الفني الذي ستنظمه جامعتنا في الشتاء المقبل في قاعة محمد الثبيتي الكبرى. يوجه الفيلم عدسته الفنية إلى التفاصيل الدقيقة لحياة أسرة سعودية محدودة الدخل، ليكشف عن تداخل المشترك الإنساني والمميز الثقافي في يوميات يهمشها الخطاب العام، العالمي والمحلي أيضاً، في غمرة الانشغال بتعزيز الصور النمطية لــمجتمع نفطي مشدود فكرياً إلى القرون الوسطى!» ذلك التعبير الغربي المتحيز لروايته التاريخية. كانت فكرة الفيلم قد بزغت في ذهن إحدى الخريجات بعد أن ألقت محاضرتها في كلية ييل للدراما عن التأويل الاجتماعي لحركة الفيلم القصير في الخليج العربي، حيث أشعرتها أسئلة الحضور بضرورة التفكيك الفني للخطاب الغربي عن المنطقة.
أحد الخريجين في قسم التاريخ في جامعة كاليفورنيا- بيركلي حصلت رسالته للدكتوراه على تقدير مميز؛ لكونها الأولى التي تفكك ما سمَّته «الأسطورة الجهيمانية»؛ وهي تلك الفكرة السائدة، التي يعززها الخطاب العام نفسه، والتي تعيد التحولات السعودية المختلفة في العقود الأربعة الأخيرة إلى حادثة واحدة هي احتلال جهيمان للحرم في الأول من محرم ١٤٠٠هـ، (20 نوفمبر ١٩٨٠). يثبت الباحث دور المقاربة الجوهرانية للثقافة في عزل الفكرة عن ظروف نشأتها، إضافة إلى دور النموذج التحليلي لنظرية التحديث في تعزيز ثنائية موهومة بين التراث والحداثة تفسر تعطل أحدهما بازدهار الآخر. لم تـفُـت هذا الباحثَ الاستفادةُ من الدراسات الأخيرة حول منهجية العامة لكتابة التاريخ السعودي والتي أثبتت تأثرها بفكرة «الاستثنائية الأميركية» التي ألهمت كثيراً من مدونات التاريخ الأميركي.
وفي الجانب الشرقي لأميركا، وظفت إحدى خريجات قسم اللغويات والفلسفة بمعهد ماساتشوستس للتكنولوجيا بعضَ المفاهيم المستقاة من الشعريات الإدراكية لتقترح وجود تشابه في الاستعارات المفهومية المهيمنة بين خطابيْن سعوديين متباعديْن ظاهرياً: أحدهما هو الخطاب الوعظي، بوجهَـيْـه الصحوي والليبرالي، والآخر هو الخطاب الكروي؛ تشابهٌ تشكِّل فيه استعارة (الحرب) بؤرة مفهومية لاستراتيجيات الاستبعاد والإقصاء التي يتحول معها الفضاء الفكري إلى مستطيل أخضر للاحتراب على الظفر بهامشٍ محدد مسبقاً؛ من أجل حماية تعريفات ضيقة للهوية يغذيها تاريخ صراع متخيَّل. والكلمة أقصر من أن تستوعب جميع مشاريع التخرج. تكفي الإشارة إلى أن بعضها قدم تفسيراتٍ أنثروبولوجية للرقصات الشعبية في المملكة بوصفها خطابات هوية فرعية تستبطن ذاكرة اجتماعية تفاعلت جمالياً مع بيئتها المحلية، كما قارب بعضها الرواية البديلة لحرب الخليج الثانية، كما تجلت في الفن التشكيلي السعودي الذي تفاعل إبداعياً مع المرحلة. وبين الفيلم والتاريخ، والحروب المتخيلة والأخرى الحقيقية، أسهمت إبداعات العشر الموهوب السعودي في الكشف عن المضمر الإنساني في الحالة السعودية.
أخيراً، أود أن أعبر عن امتناني الشخصي والعميق للدفعة الجديدة من المبتعثين في قسم الترجمة في جامعة نيويورك؛ فترجمتهم التي تعتبر الأولى عربياً لمقالة «العشر الموهوب» لوليام بويز حققت لي شخصياً واحداً من أهم الأحلام الشخصية. تحياتي، وشكراً لكم جميعاً».
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Articles/8430525