شغل منصب وزير الصحة ووزير التربية والتعليم سابقاً في البحرين. متخصص في كتابة مقالات في شؤون الصحة والتربية والسياسة والثقافة.
حوالي منتصف القرن الماضي، اتضح بصورة علمية مؤكدة، وجود علاقة سببية بين التدخين وبين سرطان الرئة وأمراض القلب والشرايين وغيرها من العلل الجسدية، وبدأ الأطباء والمجلات الطبية الموثوقة والكثير من وزارات الصحة يحذرون من عادة التدخين ويطالبون بوضع قيود على شراء السجائر وغيرها من بضائع التبغ الأخرى، وعلى أماكن التدخين العامة.
لكن شركات السجائر العملاقة البالغة الثراء والنفوذ الاجتماعي والاقتصادي، أنكرت وجود تلك العلاقة، ثم شنت حملة كاذبة، من خلال شراء بعض مراكز البحوث الطبية وبعض الأسماء الكبيرة في عالم الطب، ومن خلال حملات إعلانات تستعمل كل أنواع الإغراءات الجسدية والنفسية والمكانة الاجتماعية، لإقناع البلايين بصدق ما تقول وبأن كل ما تدعيه، مبني على حقائق وأبحاث علمية موثقة.
ولم يبدأ العالم باتخاذ خطوات عملية لحصر بيع السجائر ولإقناع الناس بخطورة عادة التدخين، وبفضح كذب وادعاءات شركات السجائر، إلا بعد أن عانى ومات الملايين عبر العالم كله.
اليوم تعود نفس التمثيلية، على نفس المسرح، بنفس الممثلين، وبنفس الضحايا. لم يتغير سوى العنوان: بدلاً من عنوان التبغ يواجه العالم عنوان الهاتف المحمول المتنقل.
تشير مراكز البحوث، ويكتب علماء النفس عن تأثيرات جانبية لاستعمال ذلك الهاتف، خصوصاً استعماله من قبل الأطفال الصغار والشباب اليافعين. وتمتد تلك التأثيرات لتشمل قائمة طويلة من مثل آلام الرقبة والتهاب مفاصل الأصابع، وإمكانية الإضرار بحاسة السمع، وإمكانية قلة النوم، بسبب تأثير ضوء الهاتف على المواد التي تساعد الإنسان على النوم، ومن إمكانية أن تؤدي الإشعاعات التي تفرزها الهواتف إلى الإصابة بشتى الأمراض الجسدية، بما فيها مرض السرطان عند البعض، وإمكانية التعود على الاستعمال الدائم الذي لا ينقطع طوال النهار ما قد يؤدي إلى حالة الإدمان على استعمال الهاتف، ومن إمكانية أن تحمل الهواتف بعض الجراثيم من مثل جرثومة «الإي كولاي» القادرة على التسبب بالتهابات الجلد، ومن توتير وتبريد العلاقات الأسرية بسبب قلة التواصل المباشر في ما بين أفرادها وانشغال الكل بشتى استعمالات الهواتف الذكية، ومن تأثير إشعاعات الهواتف على العين وعدم وضوح الرؤية، ومن الاضطرابات في التركيز ما يؤدي إلى مشاكل في التعلم والاستيعاب، وتعريض بعض الأطفال لإشكالات أخلاقية ووقوعهم تحت تأثيرات بعض الجهات الإجرامية، وخصوصاً من خلال شبكات التواصل الاجتماعي، وأحياناً ظهور أعراض الاكتئاب والتوترات النفسية وشتى المشاعر المتضاربة التي قد تؤدي إلى الانتحار.
إنها قائمة طويلة تزداد كبراً وتنوعاً مع مرور الوقت ومع ظهور أنواع جديدة من الهواتف.
وهكذا، فبدلاً من أن يصبح الهاتف الجوال وسيلة للتواصل والتفاهم والتفاعل الإنساني الحضاري في ما بين البشر، كما أراده مخترعه في عام 1973 مارتن كوبر، أصبح مرشحاً ليكون إحدى إشكاليات المستقبل الكبرى.
لا يسمح المجال لذكر بعض الإجراءات العائلية والمجتمعية التي يمكن أن تقلل من حدة تلك التأثيرات الجانبية التي ذكرناها، ولنطرح السؤال الآتي: لقد لعبت منظمة الصحة العالمية دوراً كبيراً في توعية العالم وتجييشه لاتخاذ خطوات كثيرة لمحاربة عادة التدخين ولكشف خطأ ادعاءات شركات صناعة التبغ، فلماذا لا تقوم مؤسسات من مثل اليونيسيف، المسؤولة عن الطفولة، واليونيسكو، المسؤولة عن التعليم والإعلام والثقافة، بجعل موضوع أخطار الهاتف الخلوي والكمبيوتر المحمول وتفرعاتهما التكنولوجية على الأطفال والشباب جزءاً من مسؤولياتهما، مناقشة وأبحاثاً وتجييشاً وتحفيزاً للحكومات ومتابعة دائمة للموضوع ووضعاً لضوابط البيع والاستعمال ووقوفاً في وجه من لا يهمهم إلا الربح على حساب الضحايا؟ أم هل سنتردد وننتظر كالعادة حتى يصاب الملايين من أطفالنا وشبابنا بشتى العاهات والاضطرابات السلوكية قبل أن نتعلم من دروس استعمالات وصناعة وتجارة التبغ؟
المصدر: الخليج