خاص لـ هات بوست:
أنتَ تستيقظ من نوم قلق، تتلمس يدُك طريقها في العتمة إلى هاتفك. كنت قد وعدت نفسك بالأمس أن تمارس بعض التأمل فور يقظتك، وأن تستخدم تقنيات استذكار الحلم، قلت إنك ستعود لتمارينك الصباحية وفطورك الصحي، لكنك تريد فقط أن تتبين الوقت أو تطفئ المنبه.
لا تعرف كيف ومتى وجد إصبعك السبابة طريقه إلى تصفح عشوائي لبعض المواقع: كلاب ترقص، أسعار ذهب تتقافز، مشايخ تلقي مواعظها، أشلاء ودماء وبكاء، دروس في الطهي، أطفال مولودون بالذكاء الاصطناعي يفرّون من مستشفى للولادة!
أنت الآن ترمي هاتفك بغيظ وتنظر إلى سقف غرفتك الذي أضحى لسبب ما أبعد من المعتاد، ولا تكاد تذكر آخر مرة تأملته، بادلته حفنة من الأسرار الطازجة، وطبعت قبلة على جبينه، وما عاد عندك متسع من الوقت لتسمع عتابه، ولا حتى لتتناول فنجان قهوتك المختصة بهدوء.
تسرع إلى عملك وأنت ناقم ومشوش وشاعر بالغبن، لكنك لا تعلم على من؟ ولماذا؟
تجلس في اجتماع مجلس الإدارة بذاكرة مخرومة، ينساب منها سائل هلامي لعلّه أخضر مشع. تحاول أن تذكر كيف وصلت؟ وما الغرض من الاجتماع؟ الهدف؟ محضر الاجتماع؟ اسم “الأوفس بوي” الأسمر الذي يطالعك مبتسماً وتريد أن تطلب منه قهوة بطريقة لائقة؟
هل يريحك أن تعلم أنك لست وحدك؟ وأنها ظاهرة تكاد تكون كاسحة، اصطلح على تسميتها “تعفن الدماغ”، ناجمة عن فرط التعرض لمحتويات رقمية يمكن وصفها بأنها سطحية وتافهة وبلا غاية، تؤدي إلى تراجع في مستوى التركيز والتفكير والربط والذاكرة قصيرة المدى.
يطالعك الآن مشهد صغيرك ينهار باكياً وأنت توبخه على درجاته المتدنية. تتذكر أنه قال إنه يكره المدرسة ولا يجد سبباً واحداً مقنعاً لحفظ قصيدة طويلة، أو حدود جغرافية، أو معادلة رياضية، إذا كان يستطيع أن يصل إليها جميعاً بضغطة زر.
تتذكر كل محاولاتك لجذب اهتمامه وتركيزه، لكنه قال عبارته وغاب عنك في غياهب الآيباد، وبالكاد نظر إليك باسماً ببلاهة وآثار الدموع لم تجف بعد في مقلتيه.
كنت تحدثه عن احتمالية حدوث عاصفة شمسية تودي بكهرباء الأرض وتسبب كارثة للإنترنت والأقمار الاصطناعية! حينها فقط أبدى بعض الاهتمام والقلق، لكنه ما لبث أن انغمس في لعبة إلكترونية هو بطلها الأوحد.
إذا كنت أنت ذاتك فقدت مهارة حفظ بضعة أرقام هواتف، وأسماء شوارع، وقدرة الوصول إلى الأماكن دون الاستعانة ببرنامج خرائط؛ فقدت لذة الاسترسال في قراءة طويلة ممتعة، أو حتى التركيز في محاضرة تمتد لبعض الوقت، فهل يدهشك حقاً ما قاله ابنك؟
الكل يتحدث عن المشكلة وكأنها أمر محتوم ما من سبيل للخلاص منه، وكأن العبث بأمخاخ أجيال هي المستقبل والأمل والازدهار، وتركها تتعفن قبل أن تنضج، أمر طبيعي ومقبول.
فكيف السبيل إلى وقف هذه المهزلة؟ حتى لو استدعى الأمر سن أنظمة وقوانين صارمة للحد من فوضى وجشع مواقع التواصل الاجتماعي التي تحقق شهرة ساحقة، وثراء فاحشًا من وقتنا المهدور وعقولنا المسفوحة، ناهيك عن منظومة التعليم التي آن أوان تغييرها بالكامل بما يتوافق مع واقع جديد.