كاتب وصحفي لبناني
يخشى معارضون سوريون أن تكون تركيا «السلطان» رجب طيب أردوغان انتقلت من حقبة سياسة «صفر مشاكل»، إلى مرحلة «صفر ثوابت». ومبرر القلق لديهم أن مَنْ كان يُعتبر عرّاباً للإسلام السياسي في دول ما سُمِّي «الربيع العربي» وفتحَ أبواب تركيا لكل معارض و «إخواني»، وتعهَّدَ معركة حتى تنحية الرئيس بشار الأسد، وانحاز إلى معاناة الشعب السوري… كان حذّر مرات من «الخط الأحمر» الذي يحول دون فتح النظام أبواب حلب، وبات معتصماً بالصمت، رغم شراسة القتال حول المدينة واستهداف الأحياء الخاضعة لسيطرة المعارضة ومحاولة محاصرتها لتركيعها.
والقلق مبرَّر لدى كثيرين من السوريين النازحين والمشرّدين في أصقاع الأرض، لأن التحوُّل في موقف أردوغان من الحرب في بلادهم، سيعني بالحد الأدنى- أي التفرُّج على «خنق» الفصائل المعارضة في حلب- إطالة أمد المعاناة والمآسي، وربما حسم المعركة هناك لمصلحة النظام. وواضح أن شكوكاً وارتياباً يثيرها اقتراح الرئيس التركي منح الجنسية للاجئين السوريين في بلاده، لن تبدّدها بسهولة مقولة دمجهم في سوق العمل التركية، فيما شريحة واسعة من مواطني «السلطان» ما زالت تحلم بالانتقال إلى دول في الاتحاد الأوروبي، بحثاً عن فرص.
يتضخّم الارتياب لأن الصمت التركي على محاولة «خنق» حلب المعارِضة، وسعي قوات النظام السوري إلى السيطرة على الشريان الوحيد لها، يأتي بعد تحوُّلات في السياسة الإقليمية لأنقرة، كان أبرز محطاتها التطبيع مع موسكو، الحامي الأول لنظام الأسد، فيما لم يفرّط أردوغان بالتهدئة مع طهران التي تعتبر بقاء الأسد في السلطة خطاً أحمر.
تركيا إذاً في حقبة أردوغان الثاني بعدما ابتلع الأول هزيمة خيار «صفر مشاكل»، لكنه ضحّى بداود أوغلو كبش فداء. انتهت أنقرة قبل محطات التطبيع الجديدة، إلى قطيعة مع روسيا وريبة مع أميركا، ومقاطعة لإسرائيل، وخصومة مع القاهرة وعداء لدمشق الأسد، وتوتر صامت مع طهران وأزمات متعاقبة مع بغداد. وبعد سعي مرير إلى عضوية الاتحاد الأوروبي، بدا ان السلطان نفض يديه من حلم السوق الهائلة لدول الاتحاد، لا سيما بعد الضربات الإرهابية و «زلزال» الاستفتاء في بريطانيا الذي وضعها على عتبة مغادرة قطار القارة «العجوز». وكل ذلك بعد اختبار مرير لبلادة الإدارة الأميركية في التعامل مع جحيم حرب التهمت الأخضر واليابس لدى الجيران السوريين، وباتت تهدد بتفكيك تركيا.
الأكيد أن أردوغان الثاني يفضّل عدم النوم على حرير التطمينات الأميركية إلى مدى الدعم الذي حظيت به «قوات سورية الديموقراطية» والأكراد السوريون. فجأة باتت تركيا بين ضربات الإرهاب ومطرقة التراجع الاقتصادي وهواجس الحصار السياسي إقليمياً، وأرق تمدُّد طموحات الإدارات الذاتية الكردية. اختار السلطان التطبيع مع الجوار والحسم الأمني في الداخل، وتعاوناً استخباراتياً إقليمياً يمكّنه من إجهاض حملات حزب العمال الكردستاني.
اختار «الاعتذار» لسيد الكرملين عن إسقاط الطائرة الروسية، لا أن ينتظر فوز السيد الجديد للبيت الأبيض في تشرين الثاني (نوفمبر) المقبل. اختار أردوغان الورقة الروسية «الرابحة»، الطاغية في تقرير مسار الحرب في سورية ومصيرها، فيما أقصى طموحات الأميركي أن يخفّف النظام السوري الضغط العسكري على الفصائل المقاتلة «المعتدلة»، لتتولى واشنطن وموسكو إضعافها!
هل يدفع السوريون ثمن قطار التطبيع التركي، وتدفع أنقرة ثمن التطبيع مع موسكو صمتاً على «الخط الأحمر» في حلب؟ «صفر ثوابت» كما يقال في تهكُّم بعضهم على التحولات الإقليمية لأنقرة، ألم ينعكس تخلياً عن المطالبة برحيل الأسد، شرطاً لنجاح المرحلة الانتقالية في دمشق؟
قد يكون التطبيع مع القاهرة المحطة المقبلة في تكيُّف أردوغان الثاني مع «واقعية» التخلي عن دور العرّاب للإسلام السياسي في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا، بعدما انتهت تجارب عربية إلى حروب أهلية، وتطايرت شرارات الإرهاب في كل اتجاه. بل إن الذين يدافعون عن خيارات السلطان، يرون في السلوك الأميركي على مدى ولايتي باراك أوباما، ما يكفي لعدم الاتكال على قوة عظمى كانت وحيدة، قادرة على ضمان استقرار الخرائط، وباتت «ناعمة» عاجزة عن مواجهة ثارات بوتين وأحلامه.
ولكن، هل يبرر كل ذلك، الخوف من صفقة «مشبوهة» في سورية، يريد أردوغان استباقها بكسر جدران العزلة، فلا تدفع تركيا ثمن تمديد الحرب والتهجير والتشريد، ولا ارتدادات خيار التقسيم، بما تعني من جولات طويلة… بدماء السوريين؟
المصدر: الحياة