رئيس تحرير جريدة الشرق الأوسط
دبت حركة غير عادية في الفندق البعيد. أضيئت قاعة الاجتماعات. استعد الحراس لتأدية التحيات. لا بد أن حدثاً كبيراً قد وقع لتتم الدعوة إلى جلسة استثنائية.
كان كمال جنبلاط وجورج حاوي ومعروف سعد أول الواصلين. بينهم ود قديم. سأل جنبلاط سعد عن أحوال صيدا. ردَّ معرباً عن قلقه. قال إنه أمضى الليل يفكر في الأسباب التي جعلت تلك المدينة العريقة في عروبتها تنتج انتحاريين. أعرب عن خوفه من انهيار الجسور بين المكونات في المدينة ومحيطها. قال إن التوتر السني- الشيعي حقق لإسرائيل ما لم تكن تجرؤ على الحلم به. هز جنبلاط رأسه. علق حاوي: نحن عبيد الماضي وربما تلزمنا قرون لنغادر سراديب التاريخ إلى ضوء الشمس.
دخل رشيد كرامي ومعه طوني فرنجية ودار بينهما حديث عن «تفجير المسجدين» في طرابلس.
دخل المفتي حسن خالد والشيخ صبحي الصالح ومعهما النائب ناظم القادري. دار بينهم حوار حول الوضع الحالي لدار الفتوى ووقوعها في فخ الانفصال عن مشاعر أكثرية أبناء الطائفة. أعرب خالد عن ألمه لأن تحذيراته لم تؤخذ في عين الاعتبار. قال إن الفتنة يمكن أن تأكل الأخضر واليابس في حال استمرارها. انتقد الهجوم القسري لتغيير طبيعة دول ومدن، واتهم منفذيه بتصفية حسابات قديمة خدمة لمصالح جديدة.
دخل بشير الجميل ومعه داني شمعون وبيار الجميل وجبران تويني وأنطوان غانم وفرنسوا الحاج. في الطريق إلى القاعة دار بينهم حوار حول هجرة المسيحيين من العراق وسورية وانحسار دورهم في لبنان. سأل بشير عن مواقف العماد ميشال عون، فتولى تويني التوضيح. وصل إيلي حبيقة وحيداً واحتل مقعده.
دخل سليم اللوزي وهو يتحادث مع رياض طه وكامل مروة عن المذبحة المفتوحة في سورية، وتبعهم سمير قصير حاملاً ملفاً عن تطورات «الربيع العربي». ثم دخل وسام الحسن واضعاً يمينه على كتف وسام عيد وبدا الارتياح واضحاً على وجهي الرجلين كأنهما يعرفان سبب الدعوة.
دخل وليد عيدو ومعه باسل فليحان، وتبعهما محمد شطح، الذي وقف الحضور لاستقباله بوصفه العضو الجديد في «حكومة الشهداء». ثم دخل رئيس الحكومة رفيق الحريري وصافح الحاضرين وكان له عناق طويل مع شطح والحسن.
اتخذ الجميع أماكنهم ثم دخل الرئيس رينيه معوض واتخذ مكانه على رأس الطاولة.
افتتح معوض الجلسة قائلاً: «تعرفون أن آلة القتل نجحت في اصطيادنا. وأن بعض عمليات الاغتيال غيّر مسار الأحداث في البلد، وأن الاغتيال طاول كل شخص كان يمكن أن يكون جزءاً من مشروع وطني يرمم التركيبة اللبنانية والجسور بين المكونات، وأن مطبخ التضليل كان يحرص على تغطية الجريمة. هكذا مُنع القضاء اللبناني من ممارسة أي دور. أنا شخصياً لا يزال ملف التحقيق في اغتيالي فارغاً. للمرة الأولى يمكن الاقتراب من الحقيقة عن طريق العدالة الدولية. إن معرفة الحقيقة لن تعيدنا إلى الحياة أو إلى من نحب. لكن الحقيقة يمكن أن تساهم في وقف نهر الاغتيالات الذي يتدفق منذ عقود. وبعد معرفة الحقيقة لا خيار أمام اللبنانيين غير المسامحة والمصالحة لاستئناف العيش معاً».
تناول الحريري الكلام وقال: «ضاعفَتْ آلامي من الاغتيال الحقائقُ التي أطلعني عليها اللواء وسام الحسن. لم أكن أتخيل ولم أكن أتصور. أكرر هنا ما قلته قبل اغتيالي. البلد أهم منا جميعاً لكنه لا يمكن أن يبنى على القتل والشطب والإلغاء. إن المسألة أخلاقية قبل أن تكون سياسية».
حانت الساعة. التفت جميع الحاضرين إلى الشاشة وراحوا يتابعون الجلسة الافتتاحية للمحكمة الدولية الخاصة بلبنان. سيطرت حال من الذهول حين راح المدعي العام يسرد الوقائع. أشاد كثيرون منهم بتقدم التكنولوجيا. التفتوا أكثر من مرة إلى الضابط وسام عيد، الذي لمعت الدموع في عينيه حين رأى والديه يتابعان الجلسة في هولندا.
خلال استراحة المحكمة استمع الحاضرون إلى كلمة سعد الحريري من هناك. غالَبَ رفيق الحريري دموعه. ما أقسى أن تترك ابنك في بحر الاغتيالات يودّع رفاقه نعشاً نعشاً. ما أقسى هذا الإصرار على بقاء القاتل مجهولاً. ما أفظع التمسك بحق القاتل في الإفلات من العقاب. توقف الحاضرون عند قول سعد رفيق الحريري إننا نريد «العدالة لا الثأر». رفع الرئيس معوض الجلسة.
هل تظهر الحقيقة ويتوقف القتل؟ هذا ما تحلم به أرملة شهيد مشت على الجمر طويلاً. هذا ما يحلم به نجل شهيد تقلب طويلاً على الجمر. هذا ما يتوق إليه شعب سار عقوداً على جمر الاغتيالات.