يوسف الديني
يوسف الديني
كاتب سعودي

أفول الأوبامية: النخب المتعالية ودرس الانتخابات

آراء

لم يكن الفوز الكاسح للرئيس الأميركي المنتخب دونالد ترمب حدثاً اعتيادياً ضمن تقاليد اللعبة الديمقراطية ونسب التصويت، لكنه مثل نتيجة لسياق معقد وطويل جسدته أفول «الأوبامية» وثقافة آيديولوجيا النخب المتعالية، وهذا درس مهم جداً ليس على مستوى الولايات المتحدة، وإنما في الحالة السياسية العامة في مرحلة ما بعد العولمة وصعود الهويات الصغيرة والقيم التقليدية المتصلة بثقافة الجمهور العريض (العامة)، التي تتموضع حول الحاجات والقناعات، وليس الشعارات أو المثل التي مهما اجتهدت النخبة في استنباتها عبر الإعلام والخطاب الفوقي أن تتحول إلى ثقافة عمومية قدر أنها ربما استحالت عقيدة قمعية.

الترمبية جسدت حالة تتجاوز شخص الرئيس وما يمثله من خطاب شعبوي إلى طوق نجاة للتيار العريض من الأميركيين، على اختلاف وتباين مواقعهم وقناعاتهم ونماذجهم، حيث استطاع أن يمثل الضفة المقابلة للباحة الخلفية للمؤدلجين، أو ما وصف مراراً بأنه ديانة تيار اليقظة الجديدة، التي بدت للأميركيين وجزء كبير من المجتمع فجّة؛ خصوصاً في ملف الأقليات والمثليين وأدلجة القيم الأميركية، ومحاولة طرح قناعات الأقلية النخبوية وفرضها على المجتمع الأميركي والعالم، بوصفها محددات للمواطنة العالمية ومخرجات العولمة التي فقدت أيضاً موقعها منذ ما يزيد على العقد، كما أنها مرشحة لأن تتراجع بشكل كبير مع موجات الانكفاء على الذات وصعود الهويات وتجذر مركزية الدولة.

لم تفلح محاولات هزيمة ترمب لمنع شيوع ثقافة الترمبية المحافظة والشعبوية، التي كما هي الحال لخصومها، ستحتاج إلى سنوات لفهم ما حدث وتتبع حفريات الانشقاق في الداخل الأميركي تجاه سؤال: من نحن وما الذي نؤول إليه اليوم بعالم شديد السيولة في المفاهيم؟

استهداف ترمب منح الثقافة الترمبية قبلة الحياة بعد أن حاول خصومه منذ 2016، صناعة سردية مضادة؛ من التواطؤ مع رئيس البرازيل إلى قضايا المطالبة بعزله والمحاكمة في 4 ولايات، وصولاً إلى ما يقترب من 100 تهمة جنائية و3 محاولات اغتيال.

هذه السردية وشخصيته القلقة والمزعجة جعلتا خصومه يشخصنون المعركة معه حتى داخل منافسيه وأعدائه في الحزب الجمهوري، تاركين المجال لبذور السردية المضادة المتصلة بالشعبوية والجمهور العريض أن يشعروا بمظلوميته كجزء من سردية مضادة تجاه قناعاتهم الثقافية والقيمية، وتجاه تعالي النخب تجاه مطالبهم بتحسين الأوضاع الاقتصادية، فكانت النتيجة الصدمة والدرس في آن واحد؛ تحولات عميقة لدى الأقليات انضمت إلى المحافظين، مثلتها كتل صلبة من الناخبين السود واللاتينيين وفئة الشباب، ولاحقاً التصويت العقابي في ميشيغان من العرب والمسلمين، حيث يمكن للفرقاء أن يجتمعوا على قول: لا للثقافة المستنبة بطريقة عقائدية حين تسوء الأوضاع ولا يفيد وقتذاك محاولة نبز ترمب الشخص بالنازي أو الفاشي سوى في تخندق جمهور تجاه ترمب الحالة.

الجمهوريون أقرب من أي وقت مضى للسيطرة على البيت الأبيض ومجلس النواب ومجلس الشيوخ، وهي فرصة تاريخية ونادرة، وفي لحظة مضطربة بتاريخ العالم شديدة التعقيد، ومن هنا، فإن التحدي هو في الاستجابة للجمهور العريض الذي أسهم في هذا الانتصار، والذي كان خارج حسابات وصراع الحزبين منذ وقت طويل، بعد أن تحولت إلى أحزاب تنتهج الطائفية السياسية، وليس تمثيل قواعدها الانتخابية، فما حدث لم يعبر عن الانقسام الآيديولوجي والسياسي المعتاد بين اليمين واليسار؛ بل اختلال في المفاهيم الأساسية وسلم القيم والأولويات، وهذا ما يحاول العقلاء في الحزب الديمقراطي التعبير عنه في عدد كبير من المقالات النقدية والمتسائلة عما حدث، خصوصاً بعد تجاوز مرحلة الصدمة وإدراك أن ثمة تحولاً على مستوى الهندسة الاجتماعية لمقولات اليسار أو شعارات النخب الليبرالية أن تعيدها دون مراجعة عميقة وطويلة للمسلمات حول الملفات الأساسية، ومنها ملف الهجرة الذي رغم تصريحات ترمب الجريئة حول سياسات الترحيل، فإنها لم تكن عائقاً تجاه الناخبين من أصول لاتينية من التصويت له، لأنهم ببساطة يعتقدون أنه لا يعنيهم، وإنما على المهاجرين ذوي السلوك السيئ.

مهمة الحزب الديمقراطي في العودة إلى الوسط وإعادة التفكير في خطابه بعد أفول النشوة الأوبامية ليست مستحيلة، لكنها عسيرة وتتطلب كثيراً من العمل غير النخبوي الذي يتصل بحاجات الناس ومطالبهم الأساسية لاستقرار اقتصادي وعائلي ونفسي بعد سنوات من صرعات وموجات التجريب منذ لحظة أوباما المشهدية.

طوق النجاة لحالة التجريب استطاعت الحالة الترمبية الاستثمار فيه، ولذلك كسب تأييد كثير من الناخبين؛ وكثير منهم غير راضين عن شخصيته أو خطابه، لكنه بدا لهم أكثر إقناعاً حين لامس خطاب التعالي والفوقية والتجريب تجاه هموم الناس الأساسية، فـ«ما ينفع الناس يمكث في الأرض»!

المصدر: الشرق الأوسط