محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
أيام ويعرف العالم من القادم إلى البيت الأبيض. في الفضاء العربي هناك انقسام بين راغب في عودة السيد دونالد ترمب وآخر آمل في وصول جو بايدن، وكل فريق له منطقه الخاص في ذلك. في انتخابات سابقة غامرت بتوقع طرف للوصول إلى البيت الأبيض، ولكنه لم يصل، فتعلمت درساً ألا أتوقع؛ فالشعب الأميركي يمكن أن يفاجئك، هذه المرة سوف تكون المفاجأة أكبر. قراءة المشهد تحتاج إلى كثير من «الحيادية» إن صح التعبير؛ فأميركا اليوم تمر بمنعطف مهم، فكل الأحداث الجارية هي «عَرَض لمرض»، إن جاز التعبير، ربما سوف يصنفها الدارسون في المستقبل أنها «بدء مرحلة التراجع» عن قيادة العالم، لم يكن هذا التراجع وليد اليوم، بل مثل أي تطور اجتماعي – سياسي آخر، هو تدريجي نشهد بعض ملامحه اليوم وعلينا ربطها ببعضها في انتظار اكتمال المشهد.
من مظاهر التراجع هو بدء استخدام تعبير قاسٍ؛ أن الولايات المتحدة يمكن أن يطلق عليها اليوم «الولايات المنقسمة الأميركية»؛ فالانقسام واضح في السنوات القليلة الماضية، بسبب فقدان شرائح كثيرة من الأميركيين، على خلاف انتمائهم، الإيمان بالحُلم الأميركي «الحق في الحياة والحرية والسعي لتحقيق السعادة»، وحتى الثقة بالنظام السياسي. ذاك ما يفسر أن يأتي شخص من خارج السياق التقليدي ليخترق «المؤسسة» التقليدية والتي كانت تنتج القيادات المدربة للحكم، كان ذلك تاجر العقار النيويوركي الذي لم يعمل قط في أي موقع من الإدارة الحكومية الرسمية وهو دونالد ترمب، لقد هزم عدداً وافراً من أهل «المؤسسة» في سباق الترشح عن الحزب الجمهوري عام 2015، وبعضهم كان قيادة للحزب أباً عن جد، عبّر ذلك عن عدم ثقة «مزمن» من الكثيرين بأهل النظام القائم، ومع ذلك كان كثيرون يتوقعون فشله عام 2016، حتى فاجأتهم النتائج. المشروع الانتخابي لترمب هو مشروع شعبوي لا يختلف عن كثير من المشروعات الشعبوية التي اجتاحت عدداً من دول أوروبا. الولايات المتحدة هي قاعدة كبرى للمشروع «الليبرالي العالمي» ولديها «التزامات» عالقة من شرق آسيا إلى شمال أوروبا إلى أميركا الجنوبية، وهي بذلك رأس محور لها قواعد في 70 دولة ومنطقة في العالم من هنا تأتي أهمية نتائج الانتخابات للعالم. للسيد ترمب ما يكره من سياسات ولكن ليس لديه مشروع سياسي متماسك؛ فهو بالطبيعة مع السوق الحرة ومؤيدوه كذلك، ولكنه في الوقت نفسه قام بحرب تجارية ليس مع الأعداء فقط، بل مع الحلفاء أيضاً، هو بالطبيعة مؤيد للعولمة، فتاجر العقار له ممتلكات حول العالم، ولكنه في الوقت نفسه يريد أن «يعزل» أميركا عن بقية العالم، فدُعي إلى بناء الأسوار، وقرر منع مواطني مجتمعات بعينها من الدخول إلى بلده، فوق ذلك لا يتأخر عن الاستخفاف بالنساء والسود والمهاجرين، وتفلت منه عبارات وكلمات على الأقل غير «دبلوماسية» وبعضها مثير للحنق لدى بعض القطاعات أو الشعوب. من يقرأ عدد الكتب التي نشرت حول تصرفه السياسي، ومن عاملين سابقين معه أو أقربائه يجد نفسه أمام «شخصية مختلفة»، وغير تقليدية تميل «إلى عقد الصفقات» وعدم الإلمام أو الاهتمام «بقواعد اللعبة» التي تعارفت عليها «المؤسسة». تعاطيه مع جائحة كورونا كانت أحد المفاصل التي فتحت الباب أمام معارضيه للتدليل على ضعف في سياساته، حيث فرضت الجائحة أهمية التعامل الدولي في الوقت الذي استخف بها وانفرد في التعامل معها من تجاهل إلى استخفاف، ثم إلى إنكار كلي. ولأن الانقسام في المجتمع الأميركي حاد، فما زال الكثير من مريديه مؤمنين بمشروعه، وكل ما يقال عنه هو بالنسبة لهم «نظرية مؤامرة».
ربما يمثل جو بايدن وفريقه النقيض لفريق ترمب (إن كان يعتمد على فريق)؛ فبايدن ابن المؤسسة لسنوات طويلة وعمل في دهاليز السياسة التقليدية وفي المؤسسات الرسمية المختلفة كما عمل نائب رئيس لفترة ثماني سنوات مع باراك أوباما. إلا أنه من جديد لا يستطيع أن ينعش (أو ربما يُحيي) المشروع الليبرالي، ليس لأنه غير راغب، ولكن لأن الظروف المحيطة لا تساعده على ذلك. فأمامه (إن وصل إلى البيت الأبيض) ترميم ما قد لا يرمم من انقسام مجتمعي – عرقي – اقتصادي في المجتمع الأميركي أصبحت الفواعل فيه تعمل لسنوات طويلة، أما التحدي الاقتصادي فهو بيّن، حيث إن الصين تسبق الولايات المتحدة اليوم اقتصادياً في كل المؤشرات تقريباً، وتشكل تحدياً اقتصادياً حتى الاتحاد السوفياتي في وقت عزه لم يستطع أن يفعله؛ فهي تغزو الأسواق ببضائع رخيصة، وتقدم التقنية المتطورة وتساعد على إقامة بُنى تحتية في بلدان كثيرة بكفاءة وتكلفة منخفضة ووقت أقل. بجانب الصين، فإن ملفات أخرى خارجية لا يسهل التعامل معها على قاعدة التفكير التقليدي السابق، فبعض الحلفاء التقليدين كبريطانيا تذهب إلى شعبوية أوروبية جديدة، وتتنامى تلك الشعبوية في ألمانيا وبعض دول المعسكر الغربي. حتى الآن لا يبدو أن للديمقراطيين مشروعاً سياسياً خارج الأطر التقليدية، وقد فشل بعضها في السابق وأسس لقدوم الترمبية من جهة، وتفشي الفوضى في الشرق الأوسط من جهة أخرى.
في الشرق الأوسط واضح من كل المؤشرات «أن المعدة السياسية الأميركية» لم تعد قابلة لهضم التدخل المباشر في الملفات الشائكة في الشرق الأوسط لكلا الطرفين الجمهوري والديمقراطي، وأي تدخل غير حصيف من الديمقراطيين إن فازوا سوف يزيد من الفوضى المشاهدة اليوم، فأي رهان يضعه البعض في المنطقة على تغيير كبير تجاه تلك الملفات العالقة ربما يكون رهاناً خاسراً. في الكثير من الكتابات التحليلية الأميركية تجد عبارة متكررة «نحن لا نستطيع أن نصلح العالم.. على العالم أن يصلح نفسه»! جملة القول، أن الأهداف التي بُنيت عليها السياسات الأميركية في الداخل والخارج والتي كانت معنا لعقود لم تعد موجودة، ولم تعد آليات الديمقراطية الليبرالية الأميركية قادرة على أن تقدم حلولاً معقولة للمشكلات القائمة في داخل المجتمعات الأميركية وفي خارجها. ما وجدناه حتى الآن، على الأقل منذ مطلع الألفية الثالثة، أن هناك عملية تغيير تحدث ممكن رصد مظاهرها، ولكن لا معرفة دقيقة بمسارها ولا أهدافها يمكن لعاقل أن يحسبها بالقلم والمسطرة، وهي عملية تتفاعل أمام ناظرينا، أما بر الأمان فلم تظهر تباشيره؛ لذلك يجب ألا يفترض متخذ القرار في منطقتنا أن مخاطر الغد هي نفسها مخاطر الأمس؛ لذلك عليه التخطيط لاحتمالات غير متوقعة في منطقة تلتهب بالحروب البينية والأهلية.
آخر الكلام:
محدودية التصورات في التعامل مع مشكلات الغد تنتج مناطق مظلمة تقود إلى بعض افتراضات خاطئة ونتائج قاسية.
المصدر: الشرق الأوسط