كاتبة سعودية
لن تتوقع أبداً أنك ستصل لمرحلة ما في حياتك تضطر فيها إلى الاعتراف بقيمة الواسطة، وتتجاهل قدراتك ومهاراتك وتعليمك وحتى شهاداتك، وستظل داخل نفسك تشعر بشيء من الخزي لأنك رضخت لهذه النهاية، التي كثيراً ما حاربتها ورفضت أن تكون جزءاً من حياتك أو حياة أبنائك من بعدك، وفي لحظة احتمال أن تتذكر صوت والدك حين عمل على بناء أُسس وقناعات مثالية داخل نظامك الفكري منذ نعومة أظافرك، وأوزع لك بأن التعليم والشهادة والاجتهاد هي الأشياء التي ستوصلك إلى المراكز والمناصب العليا، دون أن يُصارحك بالوجه الآخر لحقيقة الوضع، ربما لأن والدك نفسه تربى علي يد أجدادك في زمن الصدق والإخلاص الذين نطلق عليهم الآن زمن (الناس الطيبين)، في النهاية لم تكن وحدك، بل كان معك مئات ممن صدقوا هذه النظرية بكل سذاجة، لتصطدم بأول درس تطبيقي بعد الانتهاء من المرحلة الثانوية حين تكتشف الحقيقة المُرة وراء مأساة القبول في الجامعات، بعد أن يتم رفضك ومعدلك تعدى الـ95% ليتم قبول شخص آخر بجوارك تجاوز معدله بصعوبة الـ 60%، ولن تستطيع الاندماج مع تلك التمثيلية الركيكة التي يؤديها بعض الأكاديميين دون كلل بتبرير مطول بأن رفضك نصيب ومقدر ومكتوب، ويدخلونك في غيبيات القضاء والقدر من أجل إخفاء الواسطة داخل ثوب (ديني)، بحيث إذا أبديت قليلاً فقط من الرفض يتهمونك بضعف الإيمان! ولكن حين تكون الواسطة قوية لا تضمن فقط مقعداً في الجامعة، بل بعثة فاخرة من المحتمل أن تمتد لسنوات تتزوج فيها وتنجب إلى أن يتخرج أبناؤك في الجامعات هناك، وحين تقرر العودة فتأكد أن هذه الواسطة سخرت لك قطاعات كبيرة وجعلتها تفتح لك ذراعيها، وما عليك سوى الاختيار.
سعت إحدى السيدات بعد أن سفت تراب الأرض من أجل التقديم على وظيفة محترمة في أحد القطاعات الكبيرة من أجل تحسين وضعها المادي، حيث كانت تستلم 1500 ريال من إحدى مدارس محو الأمية لمدة عشر سنوات، ليرتفع فيما بعد بواسطة شخصية من مديرة المدرسة وصلت لمرحلة التذلل إلى أن أصبح 2000 ريال، إلا أنها لم توفق ورُفضت لأن عمرها تجاوز الثلاثين بعد أن اجتازت المقابلة الشخصية وانطبقت عليها جميع المتطلبات، ليبرر لها أحد موظفي قسم التوظيف أن النساء في سنها من شروط توظيفهن ألا تتجاوز أعمارهن الثلاثين، وكأنه شرط زواج وليس توظيفاً، في الوقت نفسه وظف ذلك القطاع سيدة أخرى تجاوزت الـ 45، وعندما علمت السيدة ذهبت لتراجعهم، لتسمع تبريراً رخيصاً يحلف ويقسم صاحبه بأنهم اضطروا لفعل ذلك والتغاضي عن شرط العمر لأن السيدة التي تم قبولها كانت فقيرة مُعدمة، ليدخلوها هذه المرة في قصص الثواب وفعل الخير واحتساب الأجر عند رب العالمين لتنتهي بالدعاء للفقيرة، التي بعد أن باشرت عملها اكتشف الموظفون أنها زوجة أحد المديرين التنفيذيين، أضناها الملل والوحدة بعد أن تزوج أبناؤها، وسافر آخر العنقود للدراسة في الخارج!.
والملاحظ مع كل تبرير غير منطقي يزداد اهتزاز مسألة الاحترام والثقة، التي كان الإنسان يُوليها لبعض الجهات التنفيذية أو التي من واجبها تقديم الخدمات للناس، حيث اعتدنا في السابق من تصديق محترفي الكذب والتبرير، وأصبح من الصعب الآن أن تنطلي تلك الأعذار الرخيصة حتى على طفل في العاشرة، فتجد مثلاً مَنْ يسارع بإغلاق الباب أو نافذة المراجعة في وجهك بعد أن وقفت وانتظرت في طابور طويل منذ الصباح، مبرراً ذلك بتأدية الصلاة، حتى قبل أن يُرفع الأذان، ليسلب الناس أوقاتهم باسم العبادة، وحين يأتي للدوام متأخراً يُسمعك من الأكاذيب ما يكفي لطبع كتاب، يبدأ بالنظام عطلان وبالمدير مشغول، أو غير موجود وينتهي بـ(راجعنا بكرة)، ولكن إذا كان هناك اتصال مسبق أو بطاقة (واسطة)، لظهر المدير فجأة واصطحبك بنفسه إلى مكتبه لتتناول فنجاناً من القهوة إلى أن يتم الانتهاء من معاملتك، والموقف الأعجوبة الذي رفض أن يتبخر من ذاكرتي، حين أديت امتحان القبول منذ سنوات في إحدى جامعات الشرقية لدراسة أحد التخصصات التي حلمت بها وكنت أتمناها بقوة، فُوجئت بالرفض مع ثلاثة من زميلاتي، لم أحزن وقتها لأنني عزمت على تكرار المحاولة، ولكن حزنت فيما بعد حين اكتشفت أن الجامعة فتحت أبوابها يوم الخميس بعد انتهاء فترة القبول لتعيد الامتحان بشكل سري ومترجم لتلك الزميلات فقط، حيث صرحت لي إحداهن بالنتيجة، وأتذكر حرارة بكائي وقتها حينما شعرت بالانكسار والإحباط حين جرحتني كلمات صديقتي التي قالت (واحدة أبوها ملحق ثقافي في الخارج، والثانية عمها يعمل في إدارة الجامعة، والثالثة بنت التاجر المعروف فلان… فمن أنتِ بينهن) لم أكن سوى إنسانة لا تملك (أم المعجزات)، ومن عجائب الواسطة المرنة أنها لا تعرف المستحيل، فحين تعثرت مجموعة من الطلاب في النجاح في الكفاءة المتوسطة لأكثر من مرة، أصر أحد الآباء أن ينجح ابنه الوحيد بأي وسيلة، فاضطر لحصر عدد أبناء رؤسائه (الساقطين) ليفتح لهم صفاً دراسياً خاصاً في إحدى المناطق، حيث تم تفريغ معلمين باتفاق خاص مهمتهم إنجاح الطلبة، ولأن النفوذ لا يعرف طعم الفشل، نجح جميع الطلاب لتضيف الواسطة أبعاداً ومرونة غير محدودة ومتعددة في المهارات التي من الممكن أن تمنحها دون قيود، واحتمال أن تعطيك كل شيء، ولكن هذا لا يعني أنها ستمنحك الذكاء، فمن فشل في أبسط الأمور الحسابية أو اجتياز المرحلة الدراسية على سبيل المثال، فلن ينجح في صنع قرار لأمور أكبر حين يتقلد منصباً رفيع المستوى بالواسطة، لذلك اصطدمنا مع كثير من القرارات غير المدروسة والخطط الفاشلة في مجتمعنا حين تفنن في العبث بها أفراد غير جديرين بالقيادة ودفعت بالمجتمع من منحدر إلى آخر، ولم تتوقف الواسطة عند النجاح والوظيفة، بل تجاوزت ذلك بكثير لتصل لإرساء مشاريع ومناقصات وصكوك ملكية أراضٍ، وآخر إنجاز تفردت به في هذا البلد لايزال متصدر القمة، حين أبدعت في تسجيل أكثر من جريمة باسم الجن.. لتثبت أنها ستظل أم المعجزات!!
المصدر: صحيفة الشرق