
خاص لـ هات بوست: لم يكن أبي يومًا طالبًا مدرسيًا، لكن ببصيرته، علّمني ما لم تعلّمه الجامعات.
كان حبّه للعلم أوسع من أيّ لقب أكاديمي، وكان إيمانه بالتعلُّم طريقًا مشيته حتى صرتُ ما أنا عليه.
أتذكّره جيدًا…ذلك الأب الذي يتابع البرامج الثقافية والدينية، ويتنقّل بين نشرات الأخبار، يتتبّع برامج المفكرين والعلماء، ويستقي منهم نورًا ويقينًا.
كان يُجلّ العلماء، ويقدّر الكلمة، وكأنها كائن حي.
وأتذكّره أكثر، حين كان يستمع لصوت الشيخ عبدالباسط عبدالصمد، بخشوعٍ يشبه الصلاة، يتأمّل تجويده كما يتأمّل المتصوّف.
وكان يحبّ قصص الأنبياء…يقرأها، أو يسمعها، وكأنها تجري الآن.
لا يستحضرها كحكاياتٍ من الماضي، بل يسأل بهدوء: هل نفعل الصواب؟ هل ما نحن عليه اليوم… يُرضي ما ينبغي أن نكون عليه؟
في تلك اللحظات — وأنا أستعيد وجه أبي وملامح سكينته —أدرك تمامًا أنه الآن في مكانٍ أفضل، سعيدٌ لأنه غرس فيّ حبّ الكلمة، وربما شاركني بعضًا من البصيرة، وجعلني، من دون أن يكتب حرفًا، أكتب اليوم كل هذا… دون أن أتغيّر، ولم يسعَ يومًا لأن يُغيّرني.
أبي… ذاك الذي رحل عن عالمنا منذ ستة أشهر، لكنه لم يرحل عن عالمي قط.
كان أبًا لا تهمّه الشهادات، بقدر ما تهمّه القيم والمعاني.
هو من أصرّ أن يصحبنا إلى المدرسة كل صباح، وينتظر عودتنا ظهرًا، لا لأنه مُضطر، بل لأنه يُحب أن يكون حاضرًا في بداياتنا ونهاياتنا.
في الطريق، كانت فيروز تفتتح صباحاتنا، لكنه لا يُدندن، لا يُغنّي… بل يُفكّر، يتأمّل، وربما كان يكتب، بصمت، حكايةً لا يُفصح عنها.
وعند عودتنا وقت الظهيرة، كان يرافقنا صوت أم كلثوم. ذاك التوقيت وحده كان يكشف لي أن لأبي عالمًا خاصًا لا نراه.
لم يكن يُردّد الأغاني، لكنه أحبّ صوت ناظم الغزالي وخالد عبدالرحمن، وتابع بشغف المسلسلات التاريخية، وبرامج الفانتازيا، و برنامج أمير الشعراء.
كان يُوزّع يومه بين الصلاة، والعبادة، والمعرفة، وبين العقل والوجدان، والكثير من السكون.
أمام أوراقه، بصمته، وبطء قراءته، نظارته البنية على عينيه، ومسبحته الفيروزية بجانبه، محاطًا بكتبه.
كان يُحدّثني عن المنفلوطي، وجبران، والجاحظ… كمن يصف قريبًا له.
ويتأمّل معي تفاصيل الأندلس..
كان يؤمن أن الجمال لا يموت… بل يُبعث.
وكان يفخر، بل يزهو، حين يُنادونه أبو البنات.
لم يكن اللقب يُرضيه فقط… بل يُبهجه، كأنّ شيئًا فيه يستقيم، وكأن الهوية تكتمل بهذا النداء.
وكان يحفظ أبيات الإمام الشافعي، يُعلّقها على الجدران، ويُردّدها كما يُردَّد الدعاء، كأن في شعره مرآةً للنفس، وفي حكمته عزاءٌ للقلق، وبوصلةٌ للنيّة.
كان أبي رجلًا وسيمًا، لكن وسامته لم تكن في ملامحه وحدها، بل في هدوئه، وسمو قلبه، ونُبل حضوره.
زكيُّ النفس، مهذَّب الخاطر، حنونٌ في صمته، قويّ في منطقه، رجلٌ لا يرفع صوته، لكنه يُسمِع.
لم يكن من أولئك الذين يملأون المكان ضجيجًا، بل كان حضوره يكفي ليمنح الغرفة اتّزانها.
نظارته البنية، ملامحه الساكنة، مسبحته الفيروزية، ورائحة عطره البسيطة… كانت تفاصيله اليومية تشبه دعاءً مُمتدًّا. حتى هيبة مشيته كانت كأن الوقت يمشي على وقع القلوب.
كان إذا نظر، نظر بعينٍ تفهم، وإذا تكلّم، اختار كلماته كما يُختار الشعر.
ما علّمه لي هو منهج حياة.
لم يطلب يومًا أن أكون مثله، لكنه كان كافيًا لأرغب أن أُشبهه.
واليوم، أنا لا أكتب عنه… بل أكتب منه.
من لغته التي سكبتها الأيام في وجداني، من حضوره الذي لا يزال يرافقني كدعاءٍ خافت لا ينقطع.
أنا ابنةُ رجلٍ… كان هو الجواب.
رحمك الله يا أبي، ما غبتَ يومًا عني.