أولويات مؤجلة

آراء

خاص لـ هات بوست: 

بعد عقود من العيش في جمهورية الخوف والقمع، وجدنا أنفسنا نحن السوريين وجهاً لوجه أمام دولة مهترئة، تحتاج لإعادة بناء من الألف إلى الياء، على جميع الأصعدة، سواء التعليمية أم الصحية أم العمرانية والاقتصادية، والأهم من ذلك الاجتماعية والإنسانية. وإذ ينشغل الناس بالبحث عن أولادهم المفقودين ولملمة الجراح، أو التفتيش عن لقمة العيش، ينشغل البعض بنقاب المرأة، وسط هاجس رئيسي يتردد في المجتمع، عن مدى سعي السلطة الجديدة، مستقبلاً، لفرض الحجاب على النساء في العمل أو المدارس أو بشكل عام كما في بعض التجارب للدول ذات الصبغة “الإسلامية”.

حتى الآن يحاول المعنيون تقديم التطمينات بألا مساس بالحريات العامة، إنما فيما يدعى “تصرفات فردية” وضمن فضاء الحرية الجديد راجت الدعوات للحجاب والنقاب، عبر ملصقات في الشوارع أو سيارات تحمل مكبرات صوت تجول في المناطق السكنية، ولا تستثني المناطق التي أغلب قاطنيها من المسيحيين، مما استفز البعض ووجدوا في ذلك بداية الاتجاه نحو “الأفغنة”.

عن نفسي أميل للتجاهل، طالما أن الأمور لم تحمل أي إجبار، فاسمع واقرأ واهتم أو لا تهتم، ومن يريد أن يلبي الدعوة فهو حر، رغم أن الإنصاف يقتضي أن يسمح المجتمع لأي دعوات أخرى بالانتشار دونما اعتراض، إلا أن اليوم هناك باعتقادي عشرات الأولويات قبل ذلك.

رب سؤال يرد إلى الذهن في هذا الظرف، هو لماذا يشغلنا شعر المرأة إلى هذه الدرجة؟ هل غطاء الرأس هو الحل لمشاكلنا؟ هل سنقضي على الجوع إن وضعته كل النساء السوريات؟ هل سيتمكن الناس من الحصول على العلاج لأمراضهم؟ هل ستحل مشكلة جيل كامل بلا تعليم؟ هل ستحل مشكلة البطالة والبطالة المقنعة؟ مئات الأسئلة التي تحتاج لأجوبة في هذا المجال.

لا نريد استباق الفرضيات لأمر لم يجر طرحه، لكن علينا الاعتراف أن الحجاب يعتبر على رأس الأولويات التي يقيّم على أساسها تدين المجتمع أو الأسرة أو المرأة في مجتمعاتنا العربية، رغم أنه في كثير من الأحيان لا يعدو عن كونه زياً اجتماعياً، لا يعكس نهائياً مدى التزام من ترتديه بالإسلام.

فإذا عدنا للإسلام كما هو في التنزيل الحكيم، وجدنا أنه الإيمان بالله مع العمل الصالح، ووجدنا الاختلاف بين الملل هو اختلاف في أداء الشعائر التي جاء بها كل رسول، ورسالة محمد (ص) ارتكزت على الأخلاق، ووصاياه التي زوده الله بها هي قيم إنسانية من قبيل {وبِالْوَالِدَيْنِ إِحْسَانًا ۖ وَلَا تَقْتُلُوا أَوْلَادَكُم مِّنْ إِمْلَاقٍ ۖ نَّحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَإِيَّاهُمْ ۖ وَلَا تَقْرَبُوا الْفَوَاحِشَ مَا ظَهَرَ مِنْهَا وَمَا بَطَنَ ۖ وَلَا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ–* وَلَا تَقْرَبُوا مَالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّىٰ يَبْلُغَ أَشُدَّهُ ۖ وَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَالْمِيزَانَ بِالْقِسْطِ ۖ لَا نُكَلِّفُ نَفْسًا إِلَّا وُسْعَهَا ۖ وَإِذَا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَلَوْ كَانَ ذَا قُرْبَىٰ ۖ وَبِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ۚ ذَٰلِكُمْ–}(الأنعام 151- 152)، و {اجْتَنِبُوا كَثِيرًا مِّنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ ۖ وَلَا تَجَسَّسُوا وَلَا يَغْتَب بَّعْضُكُم بَعْضًا–}(الحجرات 12)، و {وَيُطْعِمُونَ الطَّعَامَ عَلَىٰ حُبِّهِ مِسْكِينًا وَيَتِيمًا وَأَسِيرًا}(الإنسان 8)، إضافة لكثير من أمثلة أخرى تدعو للأخلاق الحسنة، بما فيها غض البصر وحفظ الفرج للرجال والنساء، أما الخمار فقد ذكر كلباس موجود ليرمى على الجيوب، ودعيت المؤمنات للاحتشام بما يدرأ الأذى عنهن وفق أعراف مجتمعاتهن، وكل ذلك ضمن وصايا عامة، يترك للمرء اتباعها من عدمه، إلا أن مجتمعاتنا اعتبرت الحجاب هو ركن أساسي من أركان الإسلام، وغالباً جرى التغاضي عن العمل الصالح، فترى الأخ لا يعيبه أكل مال أخواته، بينما يعيبه خروج إحداهن بلا حجاب، أو تراه يشهد زوراً لكنه لا يرضى لزوجته أن تنزع الحجاب، كذلك يمكنك أن ترى إمرأة تعذب أبناء زوجها وقد تقتلهم لكنها لا تتهاون في غطاء رأسها، فهذا الغطاء عرف، انتقل كلباس من أعراف المجتمع في شبه الجزيرة العربية قبل 1400 عام إلى مجتمعاتنا اليوم، وأصبح دين فيما أنه ليس دين، ولباس المرأة شأن شخصي لا شأن لأحد به، سواء أحبت أن تضع على رأسها غطاءً أم لا، وكما أننا كنساء ضد فرضه، فنحن ضد منعه، إنما ضد أن يكون معياراً إيجابياً أو سلبياً للحكم على المرأة، وهناك العديد من المحجبات اللاتي لم يمنعهن لباسهن من التميز بمختلف المجالات العلمية والمهنية.

وإن كان غطاء الرأس من أعراف مجتمعنا السوري لا سيما في العقود الثلاثة الأخيرة، فالنقاب ليس كذلك، عدا عن أن الوجه هوية الشخص، ووجود الملثمين أمر لا يدعو للراحة، فلا تخلطوا الحابل بالنابل باسم الدين.

إلا أن المؤسف هو رغم كل النجاحات التي حققتها المرأة في مجتمعاتنا، ورغم انخراطها في كل مجالات العمل وتحملها مسؤوليات جمة، لا سيما في خضم الحروب التي عشناها، لا زالت النظرة إليها تتمحور حول كونها حلوى، بحاجة لغطاء كي لا تستقطب الذباب، وما زلنا نرجو أن يكافح الذباب نفسه، ويرقى بها ليتعامل مع المرأة ككيان مثله، خلقهما الله على نفس الدرجة من الحقوق والواجبات، ولا ينظر لها كسلعة خلقت لمتعته.

أتمنى لبلدي التعافي، والاتجاه نحو الاستقرار والبناء، بناء الإنسان السليم المتوازن المتحلي بالأخلاق قبل أي اعتبار آخر.