كاتبة و إعلامية إماراتية
في مجتمعٍ يتميز بالرخاء والرفاهية، وفي بلدٍ يحرص فيه القائمون عليه على ضمان تأمين ما يجعل أبناؤه قادرين على أن ينالوا حياةً كريمة، نجد بعض العلامات والخصائص التي تظهر جليةً في أبنيتها الاجتماعية وفي نمط عيش أفرادها. وأحد هذه المؤشرات التي يمكن أن نعتبرها أحد رموز الترف وضمن معطيات المجتمعات الحضرية المتمدنة، هو الاستهلاك، فما لا يمكن أن ننكره أننا جميعاً غدونا مستهلكين من الدرجة الأولى، وبات منا من يصعب عليه مقاومة النزعة الشرائية إلى حد الهوس والتشيؤ والاقتناء لغير الحاجة في كثير من الأحيان.
لست ضد التسوق لكن هناك بعض الظواهر التي أود هنا أن أعرّج عليها سريعاً لما يمكن أن تخلّفه بعضها من آثار، فالشراء لمجرد الاقتناء أوجَدَ لنا نماذج بشرية يهمها تسول المشاهدة لتراها وهي تستعرض ما لديها، وهذا نجده جلياً في الجامعات وأماكن العمل أو حتى حيثما ولّينا وجوهنا بهدف التفاخر والتباهي بما تملك. ويندرج تحت هذا النوع: التمظهر بالسيارات، الملابس والأزياء والمقتنيات التقنية من موبايل أو أجهزة ذكية وغيرها، وغدونا نشتري كما لو أننا نعد بقاء أموالنا في جيوبنا احتلالاً غاشماً لها فلا نتردد في انتزاعها وإجلائها منها إلى المتاجر والمطاعم ومنافذ البيع، وإن سألنا أحدهم عن ذلك استشهد بالمثل الصيني الشائع الذي تسبب اختياراً في إفلاس الخلق: “إصرف ما في الجيب يأتيك ما في الغيب”، يقولها وأنت تعلم أن جيبه خاوٍ وأنه من هواة الاستلاف والاستدانة لكي يتأهل للانضمام إلى تلك الجماعة (المتفشخرة) ويكون في مستواها ذاته.
إن هيمنة التوجه الاستهلاكي ودعمه من شأنه أن يحيلنا إلى مجرد متبضعين نأخذ ما يُصدّر إلينا جاهزاً معلّباً ويبث فينا التراخي والكسل والتخاذل، إذ بإمكاننا أن نستثمر ما نملك في مشاريع مثمرة تدر بالنفع علينا وعلى ثرواتنا الوطنية وتدعمها؛ برغم أن البعض يرى أن التسوق يدعم سوق النقد المحلي ويحرّك القوة الشرائية لكنه يضر بالفرد نفسه، وفي هذا اختلف الخبراء الماليون وذهب معظمهم مع التيار الذي يخدم أهدافهم، لكن في الإمارات وفي دبي تحديداً يتم دعم الاستثمار أياً كان حجمه لأن هذا من شأنه أن يثري الساحة الاقتصادية ويدفع بعجلة الحِراك والتقدم.
لا يغفل أحد أن هناك نهجا واضحا لتعزيز عادة التبضع لاعتبارات مختلفة سواء عبر التشجيع عليه، أو زيادة مراكز التسوق، أو حتى الدراسات التي تتحدث عن دوره في تحسين الصحة وإطالة العمر، ما يعنيني هو أن الاستهلاك بهذه الطريقة العشوائية وغير الممنهجة إلى حد تجمهر وتزاحم النساء في الشقيقة الكويت انتظاراً لافتتاح متجر (عادي )؛ من شأنه أن يجعل اهتماماتنا محصورة في قشرتنا الخارجية ويقطع عنا سبيل إرواء أرواحنا وتغذيتها والتسوق لها عبر إذكائها بالطرق الإيمانية كلٌ ومعتقده، فترفيه الجسد والتمركز حوله يعمي البصيرة ويحيد بها عن إدراك معاشها فتنشغل وتلتهي عن واقعها إلى التسلي بتبذير مالِ الله، فالتعامل مع النقود علم يزودك بأصول وطرق إدارة ما تملك وتوفيره وحسن تدبيره والتصرف فيه والاعتدال في الإنفاق هو أيسر مبادئه.
وحريٌ بي أن أذكر أن التسوق ليس جُلّه شر، فأنا أجد أنه استطاع أن يزيل الفوارق الطبقية بين الناس، حيث أننا ظاهرياً أصبحنا نرى ألبسة وإطلالات خارجية تكاد تكون متشابهة؛ نظراً لشراء الأغلبية لوازمهم من المتاجر عينها في مراكز التسوق، كما لا ننكر أنه من الممتع للبعض أن يتسوق ويدلل نفسه بمشتريات تعوضه عن الحرمان العاطفي الذي يشعر به! ونعلم جيداً أنه يصعب أحياناً مقاومة سحر اقتناء غرض ما جميل وجاذب، لكن التسوق يصبح داءً إن تحول إلى هوس وإفراط ومبالغة، إذا أصبح سلوكاً اجتماعياً وغدا عادةً متأصلةً في قيم الثقافة السائدة عندنا، ثم إن كان المرء سيقضي معظم وقته ويهدره في التسكع في الأسواق بغية ملاحقة كل جديد تطرحه دور العرض فإننا سنخسر احتمالية أن يولد ويوجد بيننا مفكر يشغل حاله بالتدريب والعمل والإنتاج أو بمتابعة ما يدور في الساحة وتأهيل نفسه ليكون عوناً لأرضه في مواجهة التحديات المقبلة.
إننا اليوم أشد ما نكون في حاجة إلى اعداد أفراد بنّائين منتجين يحملون خصال الصبر والجَلَد والصمود، ومن يميل إلى التسوق فليفعل ذلك بقدر وليحفظ قروشه الملوّنة للأيام السوداء.
خاص لـ ( الهتلان بوست )