لا تزال المبادرة السعودية للسلام التي تحولت إلى مبادرة عربية هي المسار الأنسب ربما للتخلص من كل الآثار التي خلفتها وتخلفها يوميا القضية الفلسطينية في المنطقة وكيف تحولت من قضية شعب وأرض محتلة إلى حفلة مزايدات سياسية لا تنتهي.
كل الكيانات والأنظمة التي لديها مشكلة في الشرعية جعلت من القضية الفلسطينية شعارا لها ومادة للمزيدات والبحث عن أدوار كارثية في المنطقة.
ربما يكون النظام الإيراني أبرز من تاجر في قضية فلسطين، ولا تكاد تمر خطبة ولا مناسبة يتحدث فيها قيادي إيراني إلا وكانت فلسطين والقدس والتحرير حاضرة وبكثافة؛ سرايا القدس، فيلق القدس، وغيرهما من التسميات التي تم إطلاقها على فرق عسكرية إيرانية تعكس ذلك التعلق الزائف بالقضية، ومحاولة جعلها قضية وجود بحثا عن شرعية للكيان، وبينما يتطلع المواطن الإيراني لحلول لقضاياه الداخلية يجد أن كل مقدرات بلاده موجهة لإذكاء الصراعات ودعم الميليشيات الإرهابية المسلحة تحت شعار الموت لإسرائيل وتحرير الأراضي الفلسطينية.
حزب الله في لبنان مثلا يجعل من المقاومة والقضية الفلسطينية مبررا لوجوده وانتهاكاته للسلطة واختطافه الدولة اللبنانية، مما يعني أن أي حل للقضية الفلسطينية يمثل تهديدا وجوديا للحزب وانشطته ومبررات بقائه. حماس الفلسطينية أيضا سيتحول كوادرها إلى عاطلين عن العمل فيما لو شهدت القضية الفلسطينية أي انفراج نحو الحل. أنظمة مثل النظام التركي والنظام القطري وفي سياق سعيها للعب أدوار أكبر لم تجد أنسب من القضية الفلسطينية وكل تحركاتها باتجاهها زادت القضية تعقيدا وساهمت بشكل كبير في حالة الانقسام بين القوى السياسية هناك.
إذن.. نحن أمام قضية لا يراد لها أن تحل، لأن في حلها تجريدا لتلك الكيانات والجماعات من الشعار الذي تتاجر به وتتكسب من ورائه شرعية ووجودا.
تلك أيضا هي أكثر الكيانات شغبا وصراخا أمام كل مبادرة أو خطوة من شأنها إحداث تغيير إيجابي في المفاوضات بين أطراف القضية، وقد وجهت تلك الكيانات كل أصواتها الإعلامية للتشويش على المبادرة العربية وبأنها ركض للتطبيع مع إسرائيل. (التطبيع) مصطلح مضلل في أساسه وقد حولته المنابر الإعلامية الموجهة إلى تهمة ومسبة وحشدت الشارع العربي باتجاه اتخاذ موقف أعمى من القضية.
إيران التي تمثل اللاعب الأبرز في استثمار القضية واتخاذها مصدرا للشرعية تواجه اليوم أكبر إجماع دولي على أنها محور أساسي للتطرف والعنف والفوضى في المنطقة، وأن العالم يجب أن يتعامل معها بمزيد من الصرامة التي تجلت في عدة خطوات كان أولها الانسحاب الأمريكي من الاتفاق النووي المخجل الذي وقعته إدارة الرئيس الأمريكي السابق باراك أوباما.
ومع كل مرحلة من مراحل الضغط والعقوبات الدولية على طهران ستسارع بدورها إلى النفخ أكثر في القضية الفلسطينية وتحاول إيهام الداخل الإيراني أن كل ما يحدث إنما هو بسبب صمود النظام في وجه إسرائيل ومواقفه من فلسطين. وطالما كانت بعض الفصائل الفلسطينية جاهزة لإشعال العنف والمواجهات بتحريك من طهران والدوحة وحزب الله أيضا.
التحدي القادم يتمثل أولا في إعادة التفكير في القضية برمتها؛ ثبت تاريخيا أن كل الكيانات التي ترفع شعار القضية باستمرار هي الأكثر إضرارا ومتاجرة بها، وأن كل أشكال التعاطي السابقة مع القضية لم تجد نفعا، وبينما تظهر إسرائيل بصفتها كيانا علمانيا مدنيا تكاد تنحصر أزماته داخل حدوده، تتبدى إيران ومنذ الثورة بصفتها كيانا ثوريا طائفيا لا يؤمن بالدولة الوطنية ويجعل من الفوضى ودعم الجماعات المسلحة أولويته في المنطقة ويدرك أنه سيخسر كثيرا فيما لو شهدت القضية الفلسطينية تقدما في المفاوضات، وربما تدرك الكيانات السياسية الكبرى في المنطقة مستقبلا أن إسرائيل العلمانية فيما لو قبلت بمبادرة السلام قد تكون أقل ضررا على المنطقة من إيران الثيوقراطية المتشددة.
المصدر: عكاظ