كاتب وأستاذ جامعي موريتاني، له كتب ودراسات عديدة منشورة في ميادين الفلسفة المعاصرة وإشكالات التحول الديمقراطي.
كثيراً ما يذهب الباحثون الاجتماعيون العرب في نقدهم الثقافي لواقع البنيات الاجتماعية العربية إلى أن مركزية ومحورية الجماعة في هذه البنيات يحول دون تشكل الذاتية الفردية الحرية التي هي الإطار القيمي للممارسة الديمقراطية التعددية.
وإذا كان البعض يحيل إلى الأطروحة الخلدونية المعروفة حول المقومات العصبية لنظام السلطة والدولة في السياق العربي الوسيط بامتداداته الراهنة، فإن البعض الآخر يذهب إلى الحفر في الرؤية العقدية الإسلامية نفسها التي يرى أنها تقوم على نفي الفرد وذاتيته من منطلق أولوية الجماعة، التي هي الحقيقة الإنسانية الوحيدة المعترف بها في نظام الاجتماع الإسلامي.
ينطلق هذا النقد من ثنائية الفرد- الدولة القومية التي تعبر عن ارتباط عضوي وتلازمي بين مقولة الذات في ذريتها ولا تعينها، أي انفصامها عن كل سياقات الهوية الجماعية بمختلف دلالاتها والدولة من حيث هي إطار تعايش وانصهار الخصوصيات الذاتية المتمايزة.
وقد كنا توقفنا عند الجذور اللاهوتية البعيدة لهذا التصور للذاتية الفردية في المجال المسيحي الوسيط وتحولاته الراهنة في الخلفيات القانونية والسياسية وما تطرحه من إشكالات فكرية وعملية عويصة، فإن ما نريد أن نبينه هو أن مفهوم الجماعة في نظام الاجتماع الإسلامي الوسيط بلور تصوراً مغايراً لهذه الثنائية، مما يفسر الخلل النظري الكبير في تصور الإسلام السياسي المعاصر للدولة (الإسلامية ) بديلاً لمفهوم الجماعة كتعبير عن الهوية الكلية المشتركة.
تتعين الإشارة هنا أن الجماعة لا تقبل الاختزال في الهياكل العصبية التي لئن كانت شكلت تاريخياً أرضية البناء الاجتماعي، إلا أن العامل العقدي والقيمي أعاد صياغتها وتكييفها ليس فقط في اتجاه تشكيل شرعية الدولة ( كما كرر شراح الخلدونية المعاصرون)، وإنما أيضاً وأساساً في اتجاه وضع الأطر القيمية والمجتمعية لهوية الأفراد في سياق ينفي ويتجاوز انكفاء وانغلاق الرابطة النسبية والعصبية.
الجماعة بهذا المعنى هي ما يخرج عن ثنائية الخاص والعام أو الفردي والكلي، التي شكلت خلفية القانون الروماني – المسيحي الذي إليه يرجع التصور القانوني والسياسي الحديث من حيث كونه ينبني على نموذج الملكية الفردية المحمية ومن ثم تصبح المدونة التشريعية والتدبيرية للشأن العمومي متمحورة بالكامل على تنظيم الحواجز والفروق بين امتيازات الأفراد (أي حقوقهم)، وتكون الحرية في دلالتها الأصلية مرادفة لحق التميز لا مبدأ المساواة الذي وجد سراة الفكر الليبرالي إشكالات عصية في إدماجه في مقاربتهم السلبية لحقوق الفرد (أي استقلاليته عن الجماعة). يدرس الفيلسوف الإيطالي “توني نغري”، هذه الخلفيات في كتابه الأخير “كومنولث”، الذي يستند فيه لأبحاث واقعية وجديدة من منظور نقدي صارم ليس هذا مجال التعرض له.
الجماعة بالمعنى الذي نقصده هي التعبير عن الرابطة المشتركة الجماعية، التي لا تلغي ذاتية الفرد لكنها تقر باستحالة عزله عن سياقه الكلي، وتؤكد أن هذه الرابطة هي الضامنة للحمة الانتظام الجماعي واستمراريته لا الدولة بدلالتها القهرية الإدماجية أو دلالتها التعاقدية الاندماجية. فإذا كان جل الفقهاء اعتبر أن نصب الإمامة واجب ديني لحفظ الكيان وانتقاء الفتنة، إلا أنهم لم يمنحوا هذه الدولة أحقية أو شرعية التعبير عن الهوية الجماعية.
الجماعة من هذا المنظور مفهوم محوري في تأويلية الدين والنص، وفي النسق القانوني والسياسي لنمط الاجتماع المشترك. فمن حيث البعد العقدي، تتعين الإشارة إلى أن مفهوم الإيمان في بعده الانتمائي لا يتعلق في المدونة الإسلامية الكلاسيكية بمضمون نظري أو مفهومي للوعي أو الضمير، على غرار المقررات العقدية في المنظومة اللاهوتية المسيحية، بل هو حتى في تعبيراته اللفظية من مسلكيات وإجراءات الاندماج السهل وغير المشروط في الجماعة. وإذا كانت بعض النزعات الإسلامية (كالمعتزلة وبعض الاتجاهات السلفية)، سعت في مراحل معينة إلى تقنين مضمون الاعتقاد الفردي للمسلم، فإن علم الكلام الإسلامي نفسه، لا يمكن النظر إليه كلاهوت (أي خطاب عقدي مقنن حول الإلهيات)، بل هو نمط من الممارسة الحوارية النخبوية العالمة لدفع الشبه عن الدين، وليس متوجهاً لجمهور المؤمنين.
كما أن الجماعة هي المخولة بتأويل الدين وتفسيره، من حيث كونها الأمينة على النص الوارثة للعصمة النبوية (فلا تجتمع على ضلال)، ومن هنا مركزية الإجماع بصفته أساساً كاملًا من أسس التشريع، وإنّ حول هذا المفهوم في بعض الأحيان إلى قيد على اجتهاد الأمة أو اختزل في أبعاد جزئية ضيقة ومحدودة.
التأويل هنا ليس هرمنوطيقاً بالمعنى المسيحي الوسيط، أي مجرد تفسير للنص المقدس تحتكره مؤسسة كهنوتية، بل هو في عمق مسؤولية تنزيل الدين في الواقع، الذي هو من مسؤوليات الجماعة.
وعلى عكس ما تذهب إليه المحاولات المألوفة لأسلمة المدونة القانونية- الاقتصادية الحديثة التي تنطلق من المقاربات الذاتية الفردية، فإن شريعة الجماعة في النمط الاجتماعي الوسيط لم ينظر إليها بالمعنى القانوني الحالي (ضبط وتنظيم الموارد المادية والإنسانية بصفتها أملاكاً خصوصية)، بل نُظر إليها بالمفهوم التشاركي الذي يصدر عن قيم الترابط الجماعي التي لا يمكن اعتبارها آليات للعدالة التوزيعية بمفهومها الإجرائي المعروف.
وكما بيّنا من قبل، فإن بعد الجماعة أجلى في الشأن السياسي العام، باعتبار أن الجماعة وليس الدولة هي إطار الفاعلية السياسية الأهلية، ولا معنى في نمط الاجتماع الإسلامي الوسيط الإيمان بالدولة المجسدة للكينونة الجماعية.
ما نخلص إليه هو ضرورة استكشاف الأبعاد التأويلية الرحبة للجماعة في أفق الحوار الخصب الذي فجره في الفكر المعاصر الحوار المتشعب بين المدرستين الليبرالية والمجموعاتية اللتين تتفقان في القيم التنويرية الديمقراطية الحديثة وإن اختلفتا في المرتكزات النظرية المتعلقة بالذاتية الفردية، كما أن هذا الحوار يكتسي قيمة مضاعفة في الجدل الحالي الذي تطرحه أزمة الدولة القومية السيادية في مرتكزاتها الاقتصادية والقانونية التنظيمية، وهو الجدل الذي أعاد الاعتبار للهوية الجماعية المشتركة مقابل الذاتية الفردية وشمولية الدولة.
المصدر: الاتحاد