كاتب سعودي
ما تمخض عن نتائج الانتخابات البرلمانية العراقية الأخيرة هو استمرار للوضع القائم هناك، ففي ظل توازن القوى وتعادل التجاذبات بين اللاعبين السياسيين الأساسيين ليس مأمولا أن يشهد العراق أي تغيير حقيقي، وعليه فمن المتوقع بشكل كبير أن ينجح رئيس الوزراء نوري المالكي في تأمين ولاية ثالثة له، ما يعني عمليا استمرار صيغة العلاقة السياسية الحالية ذاتها بين المملكة والعراق لأربع سنوات قادمة ما لم ننجح في اجتراح رؤية سياسية بديلة تجاه العراق خلال الفترة القادمة.
العلاقة بين المملكة والعراق ليست في أفضل أحوالها، فالقيادة العراقية الحالية مرتمية في الحضن الإيراني بشكل يمنع من تطوير العلاقة في الاتجاه الصحيح، كما أن رئيس الوزراء الحالي نوري المالكي سبق له عدة مرات توجيه الاتهام للمملكة بمعاونة الإرهابيين في العراق والعمل على زعزعة استقراره، وهو اتهام لم ينجح في برهنته وإنما استخدمه لأغراض سياسية داخلية، تماما كموقفه من مظاهرات العرب السنة على مدار العام الماضي.
إن سعي المالكي الحثيث للبقاء في السلطة جعله يفتح الباب لإيران بشكل غير مسبوق، خاصة وأن إيران التي نجحت خلال العقد الماضي في التغلغل في العراق كانت هي عراب ترشيح المالكي لولايته الثانية من خلال الضغط على التحالف الشيعي لتأييده عوضا عن إياد علاوي الذي حصلت قائمته على نسبة الأصوات الأعلى في انتخابات 2010. لكن المالكي وعلى مدى السنوات الأربع الماضية نجح في تأليب الكثيرين داخل العراق ضده – ومن معسكر القوى الشيعية على السواء أيضا – بسبب سياسة إرضاء إيران التي يتبعها. وأبرز عنوان على هذا الإرضاء في الوقت الحالي هو الدعم الذي يقدمه المالكي لتقديم آية الله محمود الشهرودي كخليفة لآية الله علي السيستاني على مرجعية النجف، ما يعني عمليا إنهاء مرجعية النجف العربية لحساب مرجعية قم الفارسية، فالشهرودي المرتبط بالنظام الإيراني يمثل النقيض تماما للسيستاني الذي يظل معارضا لمبدأ ولاية الفقيه وللهيمنة الإيرانية على العراق باسم الشيعة.
على أن مثل هذه المعارضة الشيعية العربية للمالكي وكما برزت مؤخرا في مواقف أشخاص مثل مقتدى الصدر الذي أعلن معارضته للمالكي وقام بتأييد السنة في مظاهراتهم ضده، لا يتوقع لها أن تؤتي ثمارها بسبب غياب أي قوى أخرى على الأرض العراقية باستثناء الإيرانيين، ومن ثم فإن الوضع الذي كان قائما في 2010 يظل قائما في 2014 ومن المتوقع أن تقوم إيران مرة أخرى بلعب دور عراب تشكيل الحكومة الجديدة لصالح المالكي ما لم تقم دول المنطقة بمنع استمرار هذا النهج لدورة أخرى تمثل 4 سنوات قد تكون فاصلة في مقدرات المنطقة، خاصة مع استمرار الأزمة السورية ومع اقتراب إيران من توقيع اتفاقيتها النووية مع الدول الكبرى التي ستتيح لها بسط مزيد من الهيمنة على المنطقة.
أفرزت نتائج الانتخابات الأخيرة عن حصول “ائتلاف دولة القانون” الذي يتزعمه المالكي على 92 مقعدا في البرلمان، ما يعني أن المالكي يحتاج إلى 73 مقعدا فقط للوصول إلى عتبة 165 مقعدا (نصف المقاعد +1) ليضمن ولايته الثالثة. هذه المقاعد قد يتمكن المالكي من ضمانها بتشكيل تحالف يتضمن بعض اللاعبين التاليين: التحالف الكردستاني (38 مقعدا) “كتلة متحدون” بزعامة رئيس البرلمان أسامة النجيفي (23 مقعدا) “كتلة المواطن” الممثلة للمجلس الأعلى الإسلامي العراقي بزعامة عمار الحكيم (28 مقعدا).
عمار الحكيم الذي سبق له إعلان معارضته للمالكي إلى جانب مقتدى الصدر الذي حصلت كتلته “الأحرار” على (34 مقعدا) أكثر عرضة للضغط الإيراني ومن ثم قد يدفع عمار الحكيم بعودة التحالف الشيعي ليشكل مع الصدر كتلة قوامها (62 مقعدا) يفاوض بها كلاهما المالكي، أو يتجه الحكيم للتحالف مع المالكي تحت الضغط الإيراني منفردا. من جهة أخرى فإن النجيفي الممثل لأصوات الإخوان المسلمين في العراق سيعمل على ضمان بقائه كرئيس للبرلمان مما قد يدفعه للتحالف مع المالكي خاصة أن صوت العرب السنة في هذه الانتخابات تشرذم بين القوائم أو لم يشارك لعدة أسباب منها الحالة الأمنية في مناطق السنة كالأنبار بسبب عمليات القوات الأمنية العراقية. والأكراد من جهتهم لا يعبؤون سوى بضمان امتيازاتهم، ومن ثم فإنه رغم العلاقة المتوترة بين المالكي والأكراد على السطح إلا أن كلاهما يستفيد من الآخر، فالأكراد رغم شكواهم المستمرة من سياسات المالكي وصلوا في نهاية المطاف معه لاتفاق حول خلافاتهم النفطية، وهم في واقع الأمر لا يريدون الانفصال كما يهددون دوما، ذلك أن الانفصال سيؤدي لفقد مميزات تجارتهم البينية مع تركيا ويضعهم في موقف صعب مع إيران. الأكراد يريدون المالكي “كفزاعة” لإبقاء جبهتهم الداخلية قوية ولضمان استمرارية حصولهم على مكاسب من المركز بما فيه ضمان منصب رئيس الجمهورية عقب جلال طلباني المريض جدا، والمالكي من طرفه يريد تهديدات الأكراد الكلامية لتقوية جبهته الداخلية وللحصول على دعمهم كونه يعرف أن مطالبهم في نهاية المطاف محددة ولا تتعلق سوى بمنطقة حكمهم الذاتي أو مكاسبهم الذاتية.
لكل هذه الأسباب تبدو حظوظ المالكي قوية في تأمين هذه الكتل التي تتشارك مصلحتها معه، في المقابل لا يوجد على الساحة أي شخصية عراقية قادرة على منافسة المالكي أو على الأقل تشكيل ائتلاف قادر على الحصول على مجموع الأصوات اللازم لتأمين عتبة الـ 165. إن فشل اتفاقية أربيل عام 2012 بين كل من التحالف الوطني الشيعي والقائمة العراقية التي يتزعمها إياد علاوي والتحالف الكردستاني لنزع شرعية المالكي هي أبلغ دليل على الأزمة الداخلية التي يعاني منها العراق اليوم، وهي أزمة ستظل قائمة طالما ظلت دول المنطقة بمنأى عن تقديم الدعم الحقيقي للقوى السياسية العراقية على غرار الدعم المقدم من إيران للمالكي.
نظريا، يمكن لائتلاف موسع يضم كافة القوى الرئيسة أن يمتلك الأغلبية لتشكيل الحكومة وتعيين رئيس لها غير المالكي (مقتدى الصدر 34 مقعدا – عمار الحكيم 28 مقعدا – أسامة النجيفي 23 مقعدا – إياد علاوي 21 مقعدا – الأكراد 38 مقعدا). إلا أن مثل هذا الائتلاف مستبعد نظرا للاختلافات والخلافات الحقيقية بين أطرافه. لذلك ما يبدو عمليا على أرض الواقع هو أحد مسارين، إما أن يعمل تكتل كبير من هذه القوى على تعطيل تشكيل أي حكومة مما يدفع بإعادة الانتخابات، أو أن يتمكن مثل هذا التكتل من فرض شروط قاسية وتنازلات من قبل المالكي تعيد قليلا من التوازن للمشهد العراقي، وبالأخص فرض أسماء معينة على الوزارات السيادية التي استخدمها المالكي خلال السنوات الماضية لبسط نفوذه وتدعيم مركزه.
ليس هناك وقت يحتاج العالم العربي فيه لعودة الدور المحوري للعراق أكثر من اليوم، بشرط أن يكون دورا محوريا معتدلا. فالحل في سورية يحتاج لدور عراقي إيجابي، وإنهاء الخلاف السني – الشيعي في المنطقة (الذي حصدت فتنته الكثير من الأرواح) يمر من خلال البوابة العراقية، كما أن العراق يظل الموازن السياسي لإيران تاريخيا، ورغم ما قد يبدو على السطح من وجود تقارب بينهما نظرا للمكون الشيعي إلا أن البعد العروبي يظل حاضرا وفعالا إذا ما تم استثماره، وكذلك يظل التنافس بين كليهما فيما يتعلق بسوق النفط وهو تنافس حقيقي كون كلاهما يحتاج للتوسع في تصدير النفط على حساب الآخر.
لا بد من إعادة العراق لواجهة الأولوية السياسية على الصعيد العربي بشكل عام وفي المملكة بشكل خاص، والآن تتمثل الفرصة الحقيقية في ظل فترة انتقالية قبل دخول دورة زمنية أخرى قوامها أربع سنوات قد يحدث فيها الكثير، وقد تختلف فيها الأمور إذا ما كان العراق على طرف الاعتدال العربي. القوى السياسية العراقية بحاجة لظهير عربي موازن لإيران، مثل هذا الظهير لا بد له أن يتجاوز ثنائية السني – الشيعي نحو ثنائية العربي – الفارسي، ولا بد له أن يوفر للعراقيين منافذ أخرى للمكاسب تتجاوز مكاسب الايرانيين، وهو أمر ليس بعيد المنال إن اجترحت رؤية عربية بديلة ومبتكرة للعراق بدلا من الرؤية الحالية.
المصدر: الوطن أون لاين