إعادة قراءة إرث إدوارد سعيد.. أحد أعظم رواد الفكر العرب الذي أثار الغضب في أمريكا وخارجها

آراء

ترجمة: هتلان ميديا

في 24 سبتمبر 2003، توفي إدوارد سعيد، المفكر والناقد البارز في مجال دراسات ما بعد حقبة الاستعمار، في مدينة نيويورك الأمريكية عن عمر ناهز 67 عاماً بعد سنوات من إصابته بسرطان الدم الليمفاوي، ورثاه الناس من جميع أنحاء العالم.

الآن، أحد طلاب إدوارد سعيد السابقين لنيل درجة الدكتوراه، تيموثي برينان، والذي أصبح في ما بعد صديقاً مقرباً لسعيد بينما كان الاثنان يُدَّرسان الأدب المقارن في جامعة كولومبيا، نشر سيرة ذاتية لأستاذه بعنوان “أماكن العقل: حياة إدوارد سعيد”، عرفنا من خلالها أن الباحث الفلسطيني المعروف كان لديه سر يخفيه عن العالم الخارجي.

كتب برينان: “مراراً وتكراراً، عندما أجريت مقابلات مع الأشخاص الذين عرفوه طوال حياتهم، قالوا إنهم لا يعرفون شيئًا عن هذا الأمر”.

إذن ماذا كان “هذا الأمر”؟ أولاً، دعونا نعود للوراء قليلاً.

تحدي الوضع الراهن

كتب برينان أنه منذ بداية حياته المهنية، كان سعيد يرفض الشعر والروايات كأداة ذات مصداقية “لأولئك الذين لديهم الدافع لإحداث تغيير سياسي”، ولم تكن “أفضل وسيلة للقيام بذلك”. قيل لنا إن هذا الموقف الرافض لسعيد يقترب من الازدراء، بينما أصر على رأيه أن المفكر وحده هو القادر على تغيير العالم وتحدي الوضع الراهن.

لا شك أن العرب، وهم شعب متأصل في الشعر، سوف ينزعجون من فكرة أن القوة الهائلة في شعرهم التقليدي لا تثير المشاعر أو تدفع للبكاء، أو تحث على العمل أو البحث عن معانٍ جديدة في جوهر الحياة. ولا شك أن الأوروبيين سيشعرون بنفس القدر من الاستياء من رأي مفاده أن الأفكار العميقة في الروايات الشهيرة مثل “البحث عن الزمن المفقود” لمارسيل بروست، و”اعترافات فيليكس كرول” للروائي توماس مان، و”يوليسيس” للكاتب جيمس جويس، لا تُغير القارئ مع كل كلمة فيها، يذوقونها بألسنتهم مثل متذوقي النبيذ النادر، وهي روايات لا يزال صداها يتردد في كل ركن من أركان حياتهم.

صحيح أنه لا يمكن إنكار الأثر الذي يتركه قادة الفكر والنقاد على المجتمع، ونعرف أن لديهم قبضة متقنة على ما نسميه “التغيير الاجتماعي” في عالمنا. لنتأمل، كمثال توضيحي، كيف غيّر المفكرون، في الأيام الأولى للجمهورية الأمريكية، مسار التاريخ الأمريكي، عندما نجح عدد من كبار قادة الفكر، مثل ألكسندر هاملتون وجيمس ماديسون، خلال المؤتمر الدستوري الذي استمر 114 يوماً في عام 1787، في بناء دولة جديدة أُطلق عليها الولايات المتحدة الأمريكية استناداً إلى عدد من الأفكار، ثم واصلوا تعزيز تلك الأفكار بـ 85 عموداً صحفياً، تُعرف باسم “الأوراق الفيدرالية”، لشرحها والدفاع عنها بالتفصيل. كما نقرأ عن انتشار قادة الفكر في أمريكا في تلك الأيام، من رالف والدو إيمرسون (توفي سنة 1882)، والذي انتقد العبودية في بلاده، إلى هاري وارد بيتشر (توفي سنة 1887)، والذي أنقذ الاتحاد عبر سفره إلى أوروبا لإلقاء خطابات حماسية أدت إلى قمع رغبتها في الاعتراف بالكونفدرالية. لكن برأيي أن الأعمال الأدبية والفلسفية الغربية لأشخاص مثل هوميروس ودانتي وشكسبير، تتضمن رؤية أعمق للوجود الإنساني والاجتماعي والسياسي، أكثر من جميع الأعمال التي ألفها النقاد وقادة الفكر، الذين يكتبون في الغالب عما قاله هؤلاء الكتاب العظماء، لكنهم لم يأتوا بتلك الأفكار الأصلية من تلقاء أنفسهم.

حسناً، ما السر؟

لقد اتضح الآن، كما اكتشفنا في كتاب برينان “أماكن العقل”، أن إدوارد سعيد كان لديه علاقة سرية بالشعر والروايات، فقد كان يكتب الأدب، بعيدًا عن الأنظار، في جوف الليل، إن جاز التعبير، فكتب الشعر والرواية، لكن قيل إنه لم يتألق في أيّ منهما. ومن بين المخطوطات غير المنشورة، والتي تمكن برينان من الوصول إليها، روايتان غير مكتملتين، وما لا يقل عن 20 قصيدة، وقصة قصيرة رفضت مجلة “نيويوركر” نشرها عام 1965 – وهي بلا شك تجربة يمكن أن تفسر رفض إدوارد سعيد لكلا النوعين من الكتابة.

ومع ذلك، فإن البروفيسور إدوارد سعيد (أو إدوار كما كان يناديه أصدقاؤه العرب في الولايات المتحدة في ذلك الوقت، بما في ذلك كاتب هذا العمود) بطل بالنسبة لنا، فهو ناقد ثقافي ليس له مثيل، أصبح كتابه “الاستشراق” (1978) نصاً تأسيسياً في العالم الأكاديمي في دراسات ما بعد الاستعمار، ومن أكثر الكتب مبيعاً التي أثرت عقول القراء حول العالم وغيرت مفاهيمهم.

ثم ماذا لو لم يمتلك بعض الأدباء الكبار موهبة تأليف الشعر وكتابة القصص الخيالية! إنها ليست نهاية العالم، أليس كذلك؟

========================

*فواز تركي، كاتب أمريكي من أصول فلسطينية يعيش في العاصمة الأمريكية واشنطن

مصدر الصورة: صحيفة غلف نيوز

رابط المقال الأصلي باللغة الإنجليزية: https://gulfnews.com/opinion/op-eds/revisiting-the-legacy-of-edward-said-1.77721897