كاتب ومحلل سياسي- لندن
في مقر الأمم المتحدة في جنيف، كشفت القاعة الرقم 3 حيث تُعقد المؤتمرات الصحافية واحداً من أسوأ العروض لآخر ما أنتجه إعلام النظام السوري من موظفين لا يستحقون إطلاقاً صفة الإعلاميين. الأكثر فظاعة أنهم لا يعلمون إلى أي حد هم سيّئون، ولا علاقة لذلك بقناعاتهم السياسية -إذا جازت تسميتها كذلك- بل بسلوكهم «اللامهني». يمكن إلقاء اللوم عليهم أو اعتبارهم غير ملومين، فمن الواضح أن أحداً لم يعلمهم الأصول، وإذا فعل فإنه لقّنهم ما في الكتب، وهذا لم يساعدهم أبداً على مواجهة الحقيقة والتعامل مع الواقع. فحين اصطدم واحدهم بإعلام الأجهزة، إعلام التوجيهات والتعليمات والضباط الملقّنين، وجد أنه مدعو لأن يكون مخبراً أكثر منه صحافياً ووجب عليه أن يقرر هل يستطيع المتابعة أم لا. فلا أحد في العمل يتوقع منهم الأمانة والنزاهة في نقل المعلومات، ولا أحد يطالبهم بالأخلاقيات الإعلامية في التعاطي مع الأخبار وأشخاصها.
في الجولة الأولى، بلغ الوضع حدّاً لا يطاق، قال لي الصحافي المخضرم، إذ إن وفد إعلام النظام كان أشبه بفرقة مجنّدين يتوزّعون في مختلف أنحاء القاعة أو يحاصرون الناطقين المتحدّثين في الهواء الطلق من كل الجهات. وليس في ذلك توق إلى معرفة أكبر كمّ ممكن من المعلومات، بل تنفيذ لتعليمات بأن يصادروا أي مؤتمر صحافي لمنع مندوبي الفضائيات الجادة أو الصحف الرصينة من طرح الأسئلة الصحيحة التي تجعل من «جنيف 2» حدثاً إعلامياً بمقدار ما هو سياسي. طُلب من مرافقي وفد النظام هؤلاء أن يمارسوا أقصى الوقاحة والاستفزاز لأعضاء الائتلاف المعارض ومندوبي وسائل الإعلام المتعاطفة مع المعارضة. فالأخضر الإبراهيمي سئم من ملاحقته بأسئلة لا علاقة لها أصلاً بالموضوع المطروح، أو بأسئلة سماها «ملغومة» أو «موجّهة» هدفها إيقاعه في ما لا يريد أن يقول، أو في نقدٍ ما لوفد المعارضة.
تكاثرت الشكاوى من أشباه الإعلاميين هؤلاء، وكانوا سوريين ولبنانيين، ما استدعى إشعار أمن الأمم المتحدة، بل إن الدائرة المختصّة اضطرّت لتشديد شروطها المسبقة لمنح بطاقات الاعتماد بغية التأكد ممن هو إعلامي ومن هو منتحل صفة، وكذلك التعرّف إلى وجود مؤسسات فعلية أو وهمية يمثلها، فالعديد من «الشبيحة» جيء بهم للجولة الأولى باسم مؤسسات لبنانية. وعلى رغم أن الوفد تقلّص في الجولة الثانية، إلا أن خطط التشويش ظلّت على حالها. صادفت أحدهم بعيداً عن مكان تجمع الصحافيين، ولوهلة نظر إليّ بشزر، وبعدئذ فاجأني بالاقتراب والسلام وحرص على إخباري أين وماذا يعمل، ثم قال من دون مقدّمات: ما تراه منّا هو جزء من مهمتنا هنا، وعندما انتدبنا لجنيف قيل لنا أن ننفذ التعليمات. أخبرني من يضع الأسئلة وكيف ومن يتولّى توزيعها. قال إنه يحاول جهده في كل مناسبة كي يتم اختياره لتوجيه أحد الأسئلة المُعدّة تجنباً للاتهام بالتقصير. قال أخيراً إنه ليس ضد النظام ولكنه لو أتيح له أن يرحل لفعل بلا تردد ومن دون أن يعني ذلك «انشقاقاً»، لكنه «مثل جميع السوريين» تعب مما حصل ويتعبه أكثر خوفه من المستقبل وعليه، خصوصاً بعد «كل هذا الدم والدمار والاستباحة الكاملة للحقوق والحرمات والكرامات».
خلال المؤتمرات الصحافية للمعارضة، يبقى أفراد «العصابة الإعلامية» في تسامر وتضاحك وتبادل للتعليقات المتهكّمة والبذيئة، أما إذا كان رجلهم هو المتكلم فيصبحون متأهبين لإمطاره بالأسئلة التي يعرف مغزاها وقد تنبهه أحياناً إلى «تعليمات» محددة طُلب منه ومنهم التركيز عليها، كما في اليوم الأول عندما وضع وفد النظام «مجزرة معان» على الطاولة طالباً من المعارضة والأمم المتحدة إدانتها. وفي المبدأ تجب إدانة أي قتل فردي أو جماعي، حتى لو كان سجل النظام حافلاً بالتجاهل لضحايا المجازر التي ارتكبها. وما شهدته بلدة معان كان معركة بين مقاتلين وليس هجوماً متعمّداً لقتل مدنيين، فالبلدة المعزولة في ريف حماه أخليت تقريباً من سكانها العلويين منذ فترة بعيدة.
سألت محدّثي الإعلامي لماذا يتصرّفون على هذا النحو، لأنهم بمنعهم الصحافيين الآخرين من أداء عملهم أصبحوا حالة هزلية شاذة في المؤتمرات. أجاب أن «الجماعة لا يريدون أن تطرح على مندوبهم أسئلة قد تتعلق بتنحّي الرئيس أو بالحكم الانتقالي». على افتراض أن هذا الأسلوب يحقق هذا الهدف، يصعب تفسير الضحكات التي يتبادلها إعلاميو النظام كلما ذُكرت «البراميل المتفجّرة» وضحاياها، فهل هذا واردٌ أيضاً في «التعليمات» أم أنهم فقدوا إنسانيتهم وأصبحوا متماهين فعلاً مع العقل الأمني الذي يدير أعمال القتل بالطريقة التي يدير بها إعلامييه؟
المصدر: الاتحاد