كاتب و أكاديمي متخصص في الإعلام الجديد
عندما تراقب أحاديث الناس في الرياض الأسبوع الماضي ستكتشف ظاهرة اسمها “الذهاب إلى معرض الكتاب لأجل الذهاب إلى معرض الكتاب” وليس لشراء الكتب أو الاطلاع على جديد الكتب كما قد يتخيل شخص ما وهو يرى الحشود المجتمعة هناك.
معرض الكتاب في الرياض تحول إلى حالة من الحراك الثقافي والفكري، هناك كتب تعلن عن التحدي الفكري والمعلوماتي مستغلة الوضع الاستثنائي لما يسمح ببيعه في المعرض، ومشاهير الشباب والثقافة يتجولون ويوقعون الكتب ويلتقون بمحبيهم، ونظرات الصراع الكامن بين الفئة الغاضبة من الحرية الواسعة في المعرض، والفئة الغاضبة من تدخل هؤلاء وما يمكن أن يقدموا عليه، بناء على ما حصل في أعوام سابقة. أن تحضر لمعرض الكتاب هو أن تكون جزءا من هذا كله، وألا تحضر معناها على الأقل أنك إنسان عادي بعيد عن الحراك الاجتماعي، ولا تستحق الاقتراب من الثقافة وورقها.
بالمقابل، من النادر أن تقرأ على الشبكات الاجتماعية أو تسمع بين أحاديث الناس تقييما لجديد الكتب وما تقدمه من فكر. باستثناء النقد الواسع لكثرة الكتب التي تجمع ما يقال عن تويتر، فإن الباقي مجرد عبارات عابرة، وكأن أحدا لا يريد أن يتجاوز عنوان الكتاب القوي الصارخ إلى ما فيه، تماما كما تعودنا أن نقرأ عبارة تويتر القصيرة المثيرة دون أن نحاول التعمق لما بعدها. نحن عموما صرنا نعيش في حالة عشق خاص مع العبارات القصيرة التي لا ترهق أذهاننا، وتستخدم الكلمات المثيرة التي تجعلنا نستمتع برفاهيتنا الثقافية سواء كان ذلك على تويتر أو من خلال أغلفة الكتب.
في أسبوع معرض الكتاب، لن تشاهد شخصا يجلس في أي زاوية من زوايا المدينة يقرأ كتابا كما قد تشاهد في أي عاصمة غربية. لا أظن أن أحدا يدعي أن هذا الإقبال الكبير على الكتب له علاقة بنهم هبط على الناس فجأة، يتضمن حب قراءة الكتب والاستثمار فيها، ولكن المؤكد أن الكثير من زوايا البيوت ستتزين بأغلفة لماعة ذات تصميم مبدع وأسماء مؤلفين مشاهير يعبرون عن ذواتنا، فنحن نشتري لمن نفخر بالارتباط بأسمائهم في حياتنا كهوية وفكر وشخصية.
لكن تخيل لو أن ما يحصل الآن في كافة أنحاء العالم من موت للكتاب الورقي، وانحدار سريع للمكتبات الورقية، وإغلاق الكثير منها، وتوقف معارض الكتاب، تخيل لو أن الكتب صارت كلها متاحة إلكترونيا على مدار السنة، دون أن تزين بها مكتبتك، ودون أن تعيش مغامرة صاخبة لترتاد معرض الكتاب السنوي، أن يتحول شراء الكتب لفعل شخصي جدا، تشتري الكتاب وتقرؤه دون أي مشاركة اجتماعية، هل فعلا سنشتري الكتب؟
الكتب موجودة الآن مجانا على الإنترنت، من خلال المتطوعين الذين يقضون على فرصة المؤلف المسكين في تحقيق الأرباح من خلال نشرها دون حقوق. تخيل لو أن تقنيات الحماية الحديثة كانت فعالة، ولم يعد يمكن ذلك، هل سيدفع الناس هذه المبالغ الطائلة التي يدفعونها في معرض الكتاب كل عام لاشتراك سنوي يقرؤون بسببه أي كتب يريدون قراءتها بلا حدود؟ أظن ـ دون شك في نفسي ـ أن الجواب سيكون لا، وأن هذه الخدمات ستعاني كثيرا من أن القارئ العربي لا يقرأ على الإطلاق.
شركة أمازون الرائدة في عالم الكتب الرقمية تفكر جديا في دخول العالم العربي من خلال استثمار لا يقل عن مئة مليون دولار، وسيكون رهانها على طرح جهازها الشهير للقراءة الإلكترونية “كندل” ومعه عدد من العروض المغرية لشراء الكتب أو الاشتراك في خيار “اقرأ كل ما يمكنك قراءته” باشتراك سنوي محدد. لو كنت مكان أمازون لتفاءلت بهذا الإقبال المخيف على معرض الكتاب، ولكن الحقيقة مرة بكل أسف.
هناك دراسات كثيرة عن تحول العالم السريع للكتاب الإلكتروني، وعندما يحصل هذا التحول ستنكشف عورة العالم العربي، الذي يكتب كتبا محدودة كما وكيفا، ليقرأها جمهور قليل. ليس هناك كتب لأنه لا يوجد جمهور، كما لا يوجد هناك جمهور لأنه لا توجد لدينا كتب. نشتري لأجل الشراء، ونقضي باقي الوقت في الكثير من اللقاءات الاجتماعية الخالية من المعنى.
لو سألت مئة شخص في الشارع الذي بجوار بيتكم: ماذا يحصل للمجتمع عندما لا يقرأ الكتب على الإطلاق، ستجد أن الإجابات مهولة، كلها تتحدث دون أي وعي بنتيجة أن يكون المجتمع بلا عمق ثقافي ومعرفي، أن يكون عدد كبير من الناس آخر عهدهم بالقراءة ما أجبروا على قراءته في المدارس، أو ما قرؤوه في الصحف والمجلات وعلى الشبكات الاجتماعية.
المجتمع يحتاج إلى نخبة تحمل هذا الوعي بقيمة القراءة، وتنذر نفسها لنشره بين الناس، وذلك حتى يقبل عدد أكبر من الناس على الكتب، فيقبل المؤلفون على طرح كتب أفضل مما نجده اليوم في السوق، وتتحسن حالتنا الثقافية، تحسنا حقيقيا وليس ظاهريا فقط.
أليس حزينا أن يصبح الذهاب إلى معرض الكتاب لأجل الفسحة والترفيه وليس للبحث عن الكتب، رغم أنه يحصل مرة واحدة سنويا؟ أليس من الحزين جدا ألا أجد كتبا أقرؤها أحيانا حول موضوعات معينة أبحث عنها إلا باللغة الإنجليزية؟ أليس الأكثر حزنا أننا أمة لا نقرأ..؟
رغم كل ما كتبت أعلاه، اسمح لي أن أشكرك أخي القارئ؛ لأنك قرأت المقال إلى آخره، ولم تكتف فقط بالعنوان، أنت إنسان نادر بحق.
المصدر: الوطن أون لاين