محمد غانم الرميحي، أستاذ في علم الاجتماع في جامعة الكويت
في التراث الصوفي «القبض والبسط» مفهومان أحد تفسيراتهما أنهما متعلقان بأمر مستقبلي مكروه أو محبوب! وفي الفضاء الجيوسياسي في منطقة الشرق الأوسط ينطبق هذان المفهومان على العلاقة بين إيران وجيرانها، في ضوء المتغيرات القائمة والقادمة، خاصة نتائج الانتخابات الأميركية، بعد 6 أسابيع من اليوم، من جهة، والمتغير الآخر في المنطقة هو الاتفاق الإماراتي البحريني مع إسرائيل من جهة أخرى. الأخير أثار شهية التصريحات المتشددة الإيرانية من جديد، السياسية والعسكرية، وكلها تهدد بـ«الويل والثبور وعظائم الأمور»! حيث إن ديناميكيات الوضع القائم في الجوار قد تغيرت جذرياً، وفي طريقها إلى التغير أكثر ما يربك حسابات طهران.
النظام الإيراني بالطبع مهتم بأمور العرب والمسلمين، ولأن فلسطين عربية مسلمة فهو على استعداد أن يدفع الغالي والنفيس للدفاع عنها. بالضبط كما يفعل، ولكن وباتجاه آخر، في إهمال حقوق العرب الشيعة داخل حدود الجمهورية في الأحواز، أو كما يفعل بـ«عدم الدفاع عن الإيغور المسلمين لدى حليفته الصين»! هناك مسلمون ومسلمون في قاموس النظام، طبعاً الأمر لمن يريد أن يعرف مُسيَّس، ومن لا يريد أن يعرف يبقى في ظل الأوهام.
إلا أن الأمر الأكثر جدية في الملف الإيراني هو مستقبل العلاقة مع الآخرين ومكان التموضع لها في المنطقة في القادم من الزمن، خاصة بعد نتائج الانتخابات الأميركية المقبلة. في المرحلة «الترمبية» تم تفعيل سياسة «القبض» من خلال سلسلة من العقوبات الاقتصادية والسياسية على إيران، وكان الافتراض لدى عدد من مراكز التفكير في واشنطن أن العقوبات سوف تُلين موقف طهران خلال أشهر لا غير، وتبيَّن أن ذلك الافتراض وتلك العقوبات التي أصابت الاقتصاد والشعوب الإيرانية في مقتل، ليست ذات أهمية أو تأثير لدى النظام الإيراني، فليست مهماً لديه نسبة الفقر المتفاقم، وليس مهماً السقوط الحر للعملة الإيرانية، إلى آخره من أشكال التدهور، المهم أن يبقى النظام ويحاول اختراق العقوبات ما أمكن، كانت قراءة خاطئة نابعة من مبادئ ليست ذات ثقل لدى النظام الإيراني. قبل ذلك في المرحلة «الأوبامية» كان الافتراض أن تقوم سياسة «البسط» بتليين موقف طهران، لذلك أغدق عليها بالمال، ووقّع معها اتفاقاً له علاقة بتأخير حصولها على النووي عسكرياً، ولكن تلك السياسة لم تنجح أن تجعل من إيران دولة طبيعية في محيطها والعالم كما افترضت تلك السياسة. إذن، لا سياسة القبض ولا سياسة البسط قادرة على أن تغير في سلوك النظام الإيراني، تلك حقيقة سوف تكون أمام الإدارة الأميركية الجديدة، سواء أكانت ترمبية من جديد أم «بايدنية» مجددة! النظام الإيراني وحلفاؤه في المنطقة يراهنون على قدوم جو بايدن والديمقراطيين إلى البيت الأبيض، على أمل عودة جديدة للأوبامية السياسية تجاههم، ذلك احتمال أقرب إلى التمني، لأن هناك مياهاً كثيرة جرت في نهر العلاقات الدولية وتغيرات جذرية حدثت، أحدها وربما أهمها الاتفاق الخليجي الإسرائيلي، بجانب حزمة من المتغيرات في الداخل الأميركي وفي الشرق الأوسط، جميعها تجعلنا نذهب إلى فكرة أن العودة إلى الأوبامية السياسية شبه مستحيلة، وخاصة بعد تطوير الأسلحة الباليستية الإيرانية وزيادة التخصيب النووي التي تقول بعض التقارير إنه أقرب إلى صنع «القنبلة» الإيرانية؟ الأكثر عقلانية أن تذهب الإدارة الجديدة إلى بناء تحالف ضد التشدد والإرهاب، ومنه الموقف من النظام الإيراني وحلفائه، لأن ترك الأمر على ما هو، يسبب اضطراباً بعيد المدى يؤثر في الاستقرار والأمن في المنطقة قاطبة، وبتركه سوف يدفع النظام العالمي كثيراً من الأثمان.
أما إن قرر الشعب الأميركي التجديد للسيد ترمب، وهذا احتمال ممكن، فإن الدورة الجديدة للسياسة الأميركية سوف تشهد نقلة نوعية من «الاحتواء» إلى «التغيير» من «القبض» إلى «ملك الأحوال»! أي السعي إلى تغيير النظام، بطرق وأساليب غير عسكرية مباشرة، وهذا أمر لم يعد سراً، فقد نشر عدد من المقالات تطالب بذلك، وأهمها ما نشر في عدد «مارس – أبريل 2020» من مجلة «الفورن أفيرز» المؤثرة، يطالب بالعمل على تغيير النظام الإيراني، ويقدم البراهين على أهمية تلك الخطوة والطرق الموصلة لها؛ حيث السلطة الإيرانية في جوهرها ظلامية وغير قابلة للخضوع للمساءلة من المجتمع الإيراني، كما تحيط جوانبها ظلال كثيفة من الريب، وبالتالي انتظار تحول رجال الدين إلى فكر آخر أمر مستبعد، فكل ما يعرفونه هو القمع. المعادلة التي وضعت واضحة، وهي أن العقوبات وحدها لن تؤثر في تغيير موقف النظام مهما دفعت الشعوب الإيرانية من تضحيات، فرفاه الشعوب الإيرانية أو حريتها أو حقوقها الإنسانية، كلها عُملة لا تصرف في بنك النظام الإيراني القائم، ما يصرف هو وهم التوسع وإنفاق المال الشحيح على قوى خارجية، والهدف هو بقاء النظام، والعمل على خلخلة الأنظمة المجاورة كي تفتقر وتتنازع.
تذهب تلك النظرية التغييرية إلى أن العقوبات وإن تخللتها اختراقات قد أنضجت الداخل الإيراني، ولم تعد لديه القدرة التي تتراجع بسرعة لضمان الوقوف الشعبي معه، في الوقت نفسه تتعاظم حركات المعارضة وتقوى وتجد لها مؤيدين في الداخل والخارج، وتبني مؤسسات سياسية وإعلامية، أي أن مشكلة البديل التي يُتخوف منها أصبحت محلولة. هذا السيناريو المنشور، الذي يتوخى الابتعاد عن استخدام القوة واللجوء إلى القوى الناعمة بتعضيد المعارضة ومدها بما تحتاج، ليس بعيداً عن أذهان الخواص في النظام الإيراني، لذلك يرغب المتشددون منهم بتوجيه ضربة استباقية في الجوار، كما قال تصريح رئيس «الحرس الثوري» الإيراني باستهداف الوجود الأميركي في الخليج، وقد تكون الطلقة التي تفجر المشهد برمته باتجاه السخونة. لا يريد النظام الإيراني في مجملة أن يقتنع أن مشروعه السياسي ماضوي يعتمد كلياً على تاريخ يغرب، يراد تجديده وبعثه من الموت في زمن مختلف كلياً، تلك المعضلة الفكرية والسياسية يرغب أن يصدرها إلى شعوب قريبة عن طريق تضخيم الخرافة والوعد برفاه في دنيا غير الدنيا التي يعيش فيها الناس. هذا المشروع ربما من أكثر المشروعات ظلامية في التاريخ، وقادم من هواجس متخيلة وغير عقلانية، ولكنه استطاع أن يُفلس الحاضر من دون قدرة على بناء المستقبل.
آخر الكلام
مرّ التاريخ الإنساني الحديث بأنظمة شمولية مختلفة، دخل معها العالم في صراع، كلف ملايين الأرواح، كانت مرتكزة على أفكار دُنيوية. النظام الإيراني مرتكز على أفكار آخروية (مقدسة) وهذا أصعب وأكثر ضرراً من أي شمولية عرفها العالم.
المصدر: الشرق الأوسط