كاتب قطري متخصص في حقوق الإنسان والحوار الحضاري والفكر السياسي
بعد سنوات طويلة من المراوغة، وقعت طهران «الاتفاق النووي» مع مجموعة الدول الكبرى وقبلت بتحجيم برنامجها النووي وفتح منشآتها العسكرية للتفتيش الدولي، في مقابل رفع العقوبات الدولية عنها وإنهاء حالة الحصار المفروضة عليها، وكل ذلك تمهيداً لعودة إيران إلى المجتمع الدولي كدولة طبيعية وعامل استقرار في المنطقة، لا عامل اضطراب وقلق. وقد رحب الخليجيون بالاتفاق، وتمنوا للشعب الإيراني كل ازدهار، وأملوا في مفاعيل تطبيق الاتفاق أن ترتد إيجاباً على الشعب الإيراني وجيرانه الخليجيين، سواء في إعادة البناء الداخلي وإصلاح البنية التحتية وتحسين الوضع المعيشي في الداخل الإيراني أو في فتح آفاق جديدة للتعاون البناء بين إيران ودول المنطقة. فالخليجيون -بطبيعتهم المتسامحة- توّاقون إلى رؤية إيران جديدة، إيران المستقبل، قوة داعمة للخير والسلام والأمن والاستقرار، ولذلك استبشروا خيراً بجولة وزير الخارجية الإيراني محمد جواد ظريف الذي دعا إلى فتح صفحة جديدة مع جميع دول المنطقة، والتي بدأها من بغداد، مروراً بالكويت، وقطر ووصفها بجولة «إعلان نوايا»، كما أن المجتمع الدولي -بعد الاتفاق- سعى عملياً عبر زيارات قام بها وزراء خارجية دول أوروبية إلى طهران لتشجيعها على «تغيير» سياساتها الإقليمية بالمنطقة مؤخراً، تباهى نائب وزير الخارجية الإيراني بأن وزراء أوروبيين اصطفوا في الدور لزيارة طهران.
العالم كله مهتم بإيران، يريدها وينتظر منها أن تتحول إلى عامل استقرار وسلام في الشرق الأوسط، ولذلك قدم المجتمع الدولي ممثلاً في مجموعة الدول الكبرى العديد من التنازلات في الاتفاق النووي مع إيران، الذي يضمن لها احتفاظها ببرنامجها النووي كاملاً، فهل تتغير إيران بعد الاتفاق النووي؟ هل يتغير اهتمامها من هدر الأموال في الخارج إلى الاهتمام بتنمية الداخل وتوفير المزيد من فرص العمل لشبابها الذي يعاني البطالة، وتطوير مرافقها ومنشآتها الصناعية والخدمية والتجارية بما يضمن «المعيشة الكريمة» لشعبها؟ هل يتغير سلوكها الإقليمي نحو تحقيق مبادئ: احترام حق الجوار وعدم التدخل في الشؤون الداخلية للآخرين، والتوقف عن دعم وتمويل المليشيات المخربة والمزعزعة للاستقرار؟ هل تكف إيران عن التسلل إلى أراضي الآخرين لمحاولة تغيير أنظمتهم وتفجير خرائط المنطقة؟
كل هذه التساؤلات وغيرها تشير بوضوح إلى أن مشكلة الخليج والدول العربية مع إيران ليست في برنامجها النووي، فالبرنامج النووي مشكلة المجتمع الدولي وقد ضمن الاتفاق تحجيمه، أما مشكلتنا مع إيران ففي هذا الدور التخريبي المزعزع لأمن واستقرار مجتمعاتنا ودولنا. مشكلتنا مع إيران في هذا التناقض بين ما يصرح به الرئيس الإيراني روحاني ووزير خارجيته ظريف، من حسن النوايا وتلطيف العلاقات وعدم التدخل واحترام الحدود الدولية، وما تمارسه إيران -فعلاً- على أراضي دول المنطقة من تسلل وتهريب للأسلحة وتمويل للمخربين، فهل تتغير إيران وتكون لها سياسة واحدة واضحة المعالم تطمئن جيرانها وتعيد «الثقة المفقودة» بها؟
هناك لدى المراقبين والراصدين توجهان: الأول، يراهن على أن هذا الاتفاق يعزز التوجه الاعتدالي في إيران، مستشهداً بالفرحة العارمة للشعب الإيراني ابتهاجاً بالاتفاق، هذا من ناحية، ومن ناحية أخرى، فإن هذا الاتفاق يسقط أو يضعف من مبررات وذرائع المتشددين الذين رفضوا أي تغيير في السلوك الإقليمي لإيران بحجة «المؤامرات الخارجية»، ويبدو هذا التوجه منسجماً مع رؤية الرئيس الأميركي أوباما التي تقوم على أن إيران دولة عقلانية، براجماتية، غير متهورة، تعرف مصالحها، ومن شأن الاتفاق معها أن يعدل سلوكها الإقليمي ويجعلها أكثر اندماجاً في المجتمع الدولي، خاصة بعد تدفق الاستثمارات الخارجية إلى سوقها وانتعاش اقتصادها، بمعنى أن «الاقتصاد» يغير «الأيديولوجيا» أو يهذبها، على الأقل.
والتوجه الثاني، يرى أن الاتفاق يقوي المتشددين بما يتيحه من أموال مفرج عنها، وبما يوفره من حرية حركة وانطلاق، ويستشهدون بما أعلنه المرشد -ولما يجف حبر الاتفاق- من تعهده باستمرار المواجهة ودعم الحلفاء، وبما أعلنته البحرين من تورط إيراني في تفجير «سترة» ويرون أن المراهنة على تغيير السلوك الإيراني، نوع من السذاجة أو الوهم، إذ لا يمكن لنظام أيديولوجي قام على أساس «تصدير الثورة» أن يتغير وإلا فقد مبررات بقائه، وشرعيته الثورية والعقدية.. إيران الثورة أفنت عمرها وأنفقت المليارات في بناء «الشبكات» المنتشرة في العالم التي تدور في فلكها، وهذه الشبكات هي الأخطر من السلاح النووي إلى درجة أن إيران يمكن أن تضحي وتقبل تقييد سلوكها النووي، ولكنها لن تتخلى عن سلوكها الإقليمي وتمويل شبكاتها العالمية.
ختاماً: دعونا ننتظر ونرى أي الرهانين سيتحقق، وإنْ كنت شخصياً أتصور أن السلوك الإقليمي لإيران لن يتغير إلا إذا تغيرت إيران من نظام «الثورة» إلى نظام «الدولة».
المصدر: الاتحاد