كاتب سعودي
تحوّلت القضية الفلسطينية من قضية سياسية مرتبطة بمأساة واقعية محددة، إلى قضية وجدانية غائمة وعائمة، ومع هذا غنيّة بالحمولات الرمزية الدينية والقومية، التي يسهل توظيفها في كل الاتجاهات؛ وفقا للظروف المصاحبة سياسيا ودينيا.
لقد أصبحت هذه القضية هي قضية النضال الذي حدث – وقائع وأبطالا -، وهي قضية النضال الموعود الذي لم يحدث – أماني وأحلاما -. إنها قضية الماضي الأليم، والحاضر البائس، والمستقبل الواعد. ولأنها كذلك؛ فكلٌ يمتاح منها شرعية ما، شرعية تمكنه من الصمود في عالم الوقائع المادية، حيث السياسة المتحولة إلى مستويات العبث، أو في عالم المعاني، حيث الزعامات الروحية لم تعد مقتنعة بحدود عوالم الروح.
لم تعد القضية الفلسطينية مجرد قضية، بل أصبحت أيقونة يتمسح بها الجميع للتطهر من الخطايا، لما تقدّم من الذنوب وما تأخر!. إنها ملاذ ذوي الآمال؛ لعل وعسى أن تثمر الآمال بتعوذياتها، كما أنها ملاذ الفاشلين للتواري خلف الهدف المستحيل، أو الذي يريدونه أن يكون مستحيلا. كل شيء يُبرر بفلسطين، وبالنضال من أجل فلسطين، ما حدث، وما يحدث، وما سيحدث، وعلى الجميع الاستسلام للأقدار الكارثية التي تسبب بها مناضلو القضية، كما استسلمت فلسطين لأقدارها. فالناصرية بررت الدكتاتورية والقمع والهزيمة والفشل التنموي الذريع بالنضال من أجل فلسطين، وكذلك فعل الأسد: الأب والابن، وصدام، وحزب الله، وابن لادن.. إلخ. وطبعا إيران لم ولن تكون بدعا من هؤلاء.
ليس غريبا أن تحضر القضية الفلسطينية في صلب الخطاب الإيديولوجي الإيراني الخمينوي. كل الدول التي تتتبنى إيديولوجيا أممية، تتجاوز حدودها، فعلت ذلك وأكثر. معظم الدول العربية تاجرت بالقضية الفلسطينية، ثم باعتها بأرخص الأثمان، بل وفي غاية الامتهان. إذن، لماذا نستكثر على الحكومة الثيوقراطية الإيرانية أن تفعل مثلما فعلوا؛ خاصة وأنها تحكم شعبا مسلما يسهل خداعه بالضرب على أوتار هذه القضية التي تقع في صميم الوجدان الإسلامي.
الذين يُعادون إيران من منطلق قومي أو مذهبي يحاولون إنكار حقيقة أن القضية الفلسطينية تحتل وجدان الشعب الإيراني. لا يريد هؤلاء الاعتراف للشعب الإيراني حتى بأبسط عواطفه الدينية التي يشترك فيها مع عموم المسلمين. إنهم يعدون ما يظهر في هذا المجال مجرد كذب وادعاء، بل ويزعمون أن ليس له أي مستند واقعي؛ حتى ولو كانت مصاديقه الواقعية غير قابلة للتشكيك، فضلا عن التكذيب. إن هؤلاء لا يعترفون للشعب الإيراني بهذه العاطفة تجاه القضية الفلسطينية؛ مع أنهم – في الوقت نفسه – يؤكدون أن حكومة رجال الدين الإيرانية تستغل القضية الفلسطينية للترويج لنفسها داخل إيران وخارجها.
والسؤال الذي نطرحه على هؤلاء: كيف تستطيع الحكومة الإيرانية التلاعب بعواطف الجماهير في هذه القضية بالذات؛ لو لم تكن الجماهير صادقة في عواطفها. بمعنى، لو لم تكن القضية الفلسطينية تلهب حقيقة الوجدان الجماهيري الإيراني، فلا معنى – أصلا – لاستغلال عواطفها من قبل حكومة رجال الدين.
لا ريب أن رجال الدين في إيران قبل الثورة وبعدها حاولوا – كغيرهم من الزعماء الدينيين – استثمار القضية الفلسطينية لصالحهم، وذلك بدعم الفلسطينيين ماديا ومعنويا. قبل الثورة كانت علاقة إيران الشاه بإسرائيل وطيدة على أكثر من صعيد (على حساب الفلسطينيين)، بينما كانت علاقة المعارضين من رجال الدين بالفلسطينيين المناضلين علاقة مشاركة ودعم، بل وتدريب على السلاح. وتتطور العلاقة، فبعد نجاح الثورة أُغْلِقت السفارة الإسرائيلية في طهران، وتم تحويل مبناها إلى مقر للسفارة الفلسطينية، وكان ياسر عرفات أول الزائرين المهنئين بانتصار الثورة، وقد عُومل الفلسطينيون من قبل الشعب الإيراني، وخاصة في الأشهر الأولى للثورة، كقديسين وكأبطال أسطوريين.
لكن، حال الثورة ليست كحال الدولة، والنضال من خارج النظام ليس كالحكم من داخل النظام. تدريجيا، بدأت شروط الدولة تفرض نفسها على شروط الثورة. الممارسة الثورية ذات الطابع المعارض تختلف عن الممارسة السياسية المرتبطة بإدارة شؤون بلد كبير متعدد الأعراق والمذاهب، فضلا عن تنوع الحلفاء والأعداء. ولهذا كان من الطبيعي أن تفرض المصلحة الإيرانية نفسها؛ فتتقدم على مصلحة القضية الفلسطينية التي تبدو في لغة الشعارات المعلنة كأولوية مبدئية لا محيد عنها مهما كانت التحديات.
لقد ضعفت العلاقة بين ممثلي القضية الفلسطينية ورجال الحكم في إيران بعد ترسّخ مفهوم الدولة بهيمنة رجال الدين على كل مؤسساتها، ومن ثم اعتبارهم مسؤولين عن مصلحة إيران قبل أي بلد آخر. والباحث وليد عبدالناصر يُرجع فتور العلاقة بين منظمة التحرير وإيران لأسباب أهمها:
1 ما ذكر من تدريب منظمات فلسطينية لمجاهدي خلق.
2 مساندة الفلسطينيين للعراق إبان الحرب.
3 إصرار بعض القيادات الإيرانية على إسلامية الثورة الفلسطينية.
4 عمدت إيران إلى نشر مفاهيم الثورة الإيرانية بين صفوف الفلسطينيين (حماس والجهاد الإسلامي) (إيران، دراسة عن الثورة والدولة، وليد عبدالناصر، ص85).
من الواضح جدا أن كل هذه الأسباب ترجع في النهاية إلى تعارض المصالح التي تفرضها الاستقلالية السياسية للكيان القطري مع مجموعة نضالية لها علاقاتها الإقليمية الواسعة. ومن هنا، اتضح أن الإيرانيين سيدعمون القضية الفلسطينية؛ ما دام هذا الدعم لا يتعارض مع مصالح الدولة الإيرانية؛ وما دام يضمن التفافا جماهيريا يزيد من حجم القاعدة الشعبية المؤيدة لرجال السلطة ولإيديولوجيا السلطة. وهذا ما حدث، إذ رغم فتور العلاقة استمر الدعم، ولكن عبر فصائل أخرى منافسة لمنظمة التحرير؛ لأن الدعم مهم أيا كان الأمر، فأثره لن يقف عند حدود تقوية الجبهة الداخلية، بل سيضمن تنامي القوة الناعمة في مواجهة المنافسين الإقليميين، خاصة وأن الإيرانيين الخمينيين يعتقدون – كما صرح بذلك لاريجاني – أن إيران تقع عليها مسؤولية زعامة الأمة الإسلامية ورعاية مصالح المسلمين (التيارات السياسية في إيران المعاصرة، حجت مرتجى ص89). وبالتالي، فدعم القضية الفلسطينية ليس أكذوبة في كل الأحوال، ولكنه استثمار في رأس مال الهيمنة الخارجية على المستوى الإسلامي.
إن إيران تستغل الفهم السياسي الساذج عند العرب والمسلمين، وخاصة عند أولئك الذين لا يفهمون السياسة إلا على ضوء ذلك التقسيم الثنائي الحاد الذي يشطر العالم إلى فسطاطين من حلفاء وأعداء. ولهذا، يرى تريتا بارزي أن إيران تقف ضد إسرائيل لتجعل الحكومات التي تعارضها أو تضادها وكأنها تقف مع إسرائيل.(حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي، ص364). فهي مناصرة تُحرج بها خصومها؛ قبل أن تحقق بها مبادئها.
وهذا في ظني هو سبب رفض التقليديين الاعتراف بحقيقة أن إيران تدعم بعض فصائل الفلسطينيين؛ لأنهم يرون أن مجرد التصديق بهذا الدعم يعني منح إيران شهادة جدارة لا تستحقها !.
أيا كان الأمر، يجب أن نعي طبيعة الدعم المبني على خلفية سياسية، إذ هو دعم متعدد الأهداف، ولا يمكن – بأي حال – أن يكون دعما أحادي البعد، خاصة إذا ما صدر عن دولة كبيرة لها مشاكلها ومصالحها التي تتجاوز حدودها. فدعم الدول ليس عملا إنسانيا مجردا، بل هو فعل سياسي من حيث الأصل، ثم تأتي بقية الاعتبارات في الدرجة الثانية، وقد تغيب هذه الاعتبارات الثانوية إذا ما تعارضت مع الأصل. ولهذا تساءل طلال عتريسي قائلا: “إلى متى ستستمر إيران في اعتبار (القضية الفلسطينية) ودعم المقاتلين في سبيلها التزاما مبدئيا لا ينفصل عن شرعية الثورة وثوابتها الإسلامية؟”(الجمهورية الصعبة، طلال عتريسي، ص 25).
إن عتريسي يدرك أن ما تقدمه إيران هو دعم ظرفي رغم الإعلان عن مبدئيته؛ لأنه في النهاية خاضع لسياسية دولة لها ثوابتها التي تفوق المعلن أصالة وثباتا. وقد ذكرنا في المقالات السابقة كيف أن إيران وضعت كل شيء على طاولة البحث/ التفاوض مع أميركا، ومنها دعم الفصائل الإسلامية الفلسطينية، بل وحزب الله، من أجل مصلحة البرنامج النووي الإيراني.
لا شيء ثابتا في عالم السياسة، حتى الثوابت ذاتها. وهنا لا بد أن يتذكر الجميع تلك المتغيرات في عهد خاتمي، حيث إن الموقف الإيراني من إسرائيل لم يعد كما كان من قبل. ففي الفترة التي “بدأت استثمارات إيران في تحسين العلاقات مع الحكومات العربية تُؤتي ثمارها، تراجعت حاجة إيران إلى الشارع العربي، وكذلك حاجتها إلى معاداة إسرائيل ومعارضة العملية السلمية” (حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي ص294)، فإيران تحتاج ما تحرك به عواطف الشارع العربي (والقضية الفلسطينية أشد الأوتار حساسية)؛ عندما تكون علاقتها متوترة بالحكومات، بينما تستغني عن هذه العواطف؛ عندما تكون علاقتها بالحكومات على ما يرام.
هذا من جهة السياسة الإيرانية تجاه إسرائيل. أما من جهة السياسة الإسرائيلية تجاه إيران، فقد تعددت المواقف الصادرة عن القادة الإسرائيليين، إذ يراها بعضهم عدوا لدودا يهدد وجود إسرائيل، بينما يراها آخرون عدوا يبحث عن ثمن لمواقفه القابلة للتغيير. وبالتالي يسهل ترويضه، وضمه إلى باقة الأصدقاء. بل إن هذه التعددية/ التذبذب في تقييم الخطر الإيراني يطال حتى مواقف السياسي الواحد. فتريتا بارزي ينقل أن نتنياهو في مستهل 1997 م أشار إلى أن إيران أشد خطرا من العراق لأن “لديها طموحات عالية. إنها إيديولوجيا”. بينما كان من قبل قد ذكر أن نتنياهو اعتقد أن السلام مع العرب بعيد الاحتمال، وبما أنه كذلك، فإن أفضل وسيلة لضمان أمن إسرائيل هي صياغة تحالف مع الدول غير العربية في الشرق الأوسط”(حلف المصالح المشتركة، تريتا بارزي، ص288، 278). ويقصد بذلك: إيران وتركيا.
المصدر: الرياض