مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان
في كل عام يعتمد معرض أبوظبي للكتاب رمزاً معروفاً يكون شخصية المعرض المحورية التي تدور فعاليات ثقافية كبيرة ومهمة باسمه، العام الماضي احتفى المعرض برمز كبير بالنسبة إلينا كإماراتيين، وكذلك بالنسبة إلى العرب، كان شخصية المعرض أو ثيمته الرئيسة المغفور له الشيخ زايد بن سلطان آل نهيان، طيب الله ثراه، وعلى هذا الوزن الكبير تكون ثيمات المعرض، هذا العام اختار المعرض الفيلسوف العربي الشهير ابن رشد، ليكون شخصيته الرئيسة، وخيراً فعل.
أن نحتفي بابن رشد كشخصية محورية لمعرض كتاب دولي هذا يعني الكثير، وأول ما يعنيه أننا كعرب نستعيد وعينا بحضارتنا وبفواصل ومحطات ليست بسيطة ولم تمر مرور الكرام، كتلك اللحظة التاريخية التي تم فيها التنكر لفكر ابن رشد تماماً، وقيل إنهم حرقوا كتبه لمنع انتشار الفكر الذي وصفوه بالهرطقة ومعاداة الدين، تلك اللحظة الفارقة رسمت خطاً بيانياً هابطاً في مسيرة إنتاج وصناعة الحضارة، هكذا اختار أهل ذلك الزمان أو القائمون عليه أن يقتلوا أفكار ابن رشد، متناسين أو غافلين عن حقيقة كبرى، هي أن الأفكار لا تموت، إنها كبذرة حية رطبة سرعان ما تخضر وتنمو في أية أرض خصبة تقع فيها، وقد طارت أفكار ابن رشد وأينعت في أراضٍ وعقول كثيرة، حتى وصلت إلينا في منتهى مجدها وألقها!
ليس غريباً أن نحتفي بالفكر والعلم والفلاسفة، المفارقة أن نحتفي برجل صودرت أفكاره وكتبه في معرض كتب عربي، في عمق الجزيرة العربية، ذلك هو الإعلان الصادق والحقيقي لانتصار الفكرة واستمرارها، وأنها لا تموت برغم مضي الزمن.
إيطاليا هي ضيفة الشرف التي اختارها المعرض بالتوازي مع ابن رشد، لجمع خطين كبيرين من خطوط إنتاج الحضارة والفكر والتنوير، توازى ابن رشد مع إيطاليا عبر تاريخ الإنسانية، ومثّلا معاً تجربة ازدهار الحضارات في بعدها الأخلاقي المنفتح والإيجابي، كما ذكر أحد مسؤولي المعرض، في إشارة واضحة إلى أن الاختيار لم يكن عشوائياً ولا مقايضة تجارية.
العالم كله يعيش حالة تباعد عن بعضه، كما يظهر، بسبب هذا الجنون الذي انغمس فيه المتطرفون ممن لديهم مشروع حفر ممنهج في جدار العلاقة الحضارية بين كل الأطراف المشتركة في جذرها الإنساني، هناك من يريدون اقتلاع القلب الإنساني من بنية الحضارة وتفريغها تماماً ودفعها إلى التحارب والتصارع، وجعل الخراب مشهداً عاماً في الأرض كما في النفوس، نحن هنا في أبوظبي، في معرض الكتاب، نخلق علاقة مختلفة، علاقة تقارب وتعاضد وتسامح ومحبة، علاقة يعلي شأنها فيلسوف، ويرسمها فنانون ورسامون وكتّاب!
المصدر: البيان