تصريح خاص وحصري للترجمة والنشر في “الهتلان بوست”
ترجمة: الهتلان بوست
تونس العاصمة، تونس – لا يوجد ما يميز “سجنان”، بلدة الصيد الصغيرة المتهالكة القريبة من ميناء بنزرت العثماني في الساحل الشمالي لتونس، فمثلها مثل بقية الأماكن في تونس، تنتشر المقاهي في الشوارع، حيث يجلس الرجال يحتسون القهوة، ويدخنون “الشيشة”. وهنا نشأ وليد صباحي، وفي “سجنان” التقى بزوجته وتزوجا، وحصل على وظيفة كسائق حافلة، مثل والده. وهنا أيضاً كان يقضي الأمسيات في ممارسة رياضة التايكوندو، أو شرب القهوة وتبادل الأحاديث مع أصدقائه. ومثل المدينة ذاتها، لم يكن هناك ما يميز وليد. فلم يكن متديناً، ولا مهتماً بالسياسة، ومرت به الأحداث الصاخبة المصاحبة للثورة منذ ثلاث سنوات مرور الكرام.
إلا أن وليد فعل شيئاً مميزاً بالفعل في شهر فبراير (2014). لقد فجر نفسه في هجوم انتحاري على بعد 2500 ميل من “سجنان”، في مدينة الموصل العراقية. ولم تكتشف عائلته الأمر سوى بعدها بأسابيع حين تلقت اتصالاً مجهولاً من رقم هاتف عراقي يخبرهم بالأمر. وقال المتصل أن وليد ترك تعليمات بعدم إخبار العائلة إلا بعد أن تضع زوجته مولودها. حطمتهم تلك الأخبار، فوالدته لا تفعل شيئاً سوى البكاء، وأرملته يتم إجبارها على تناول الطعام حتى تتمكن من إرضاع المولود الذي لم يره وليد. ولا تتمكن أيّ منهما من النوم. كما لا يزال الجيران في حالة صدمة، ولا أحد يعرف ماذا يفعل.
بعد ذلك بأسبوع، كان محمد – والد وليد – ما زال غاضباً وهو جالس في ركن مظلم في إحدى مقاهي تونس العاصمة. ويصر محمد على عرض الصور التي التقطها بهاتفه للسلفيين الذين يتهمهم بأنهم هم الذين جندوا وليد للذهاب إلى الجهاد. يقول محمد: “لقد استولوا على الوضع. بعد الثورة، ألقوا بإمام المسجد خارجاً، واستبدلوه بواحد منهم”. قبل العام الماضي، لم يكن وليد متديناً حتى. “كان يحب قضاء الوقت مع أصدقائه. كانوا مجموعة مقربة لبعضهم البعض، يحبون احتساء البيرة والتدخين، ولكنهم توقفوا عن ذلك العام الماضي. بدأوا يقضون وقتاً أطول في المسجد، غالباً ما بين أوقات الصلوات. كما أطلقوا لحاهم”.
يتذكر محمد اليوم الذي غادر فيه وليد بتاريخ 15 ديسمبر 2013. عمل محمد في ذلك اليوم في النوبة الصباحية، حيث قاد الحافلة المدرسية من الخامسة وحتى الثامنة والنصف صباحاً. عاد بعدها مباشرة للمنزل، ووضع بعض الملابس في حقيبة ثم غادر. لم يقل شيئاً لأسرته، فظنوا أنه عاد للعمل. وعندما لم يرجع في المساء، اتصلوا به، فأخبرهم أنه يحتسي القهوة مع أصدقائه. ولكنه لم يعد بعد ذلك، ولم يتمكنوا من الاتصال به. بعد بضعة أيام، ذهب أحد أصدقاء وليد لمنزل والديه وسأل إن كان وليد مفقوداً فأجابوه أنه بالفعل مفقود. حينئذ، أقر الصديق أن وليد ذهب مع آخرين إلى الجهاد.
لم يستوعب محمد الموقف. بدأ يستوقف هؤلاء الذين اعتقد أنهم هم من جندوا ابنه في الشارع والحديث معهم، واتهامهم علناً بالإرهاب. أخيراً، ذهب وفد منهم إلى محمد في منزله، ووعدوه بعودة وليد سالماً مقابل صمته. ولكن هذا الوعد لم ينفذ أبداً. ثم اتصل وليد في شهر فبراير من هذا العام (2014). ويتذكر والده الحديث الذي دار: “قال أن كل ما كان يريده في حياته السابقة لم يعد يرغب فيه. قال أن كل مايريده الآن هو حياته الآخرة”. لاحقاً في نفس الشهر، ربط وليد المتفجرات حول وسطه، وسافر إلى مدينة في دولة لم يذهب إليها من قبل ليفجر نفسه هناك.
المقاتلون الأجانب
حتى شهر أكتوبر، أدرجت وزارة الداخلية التونسية نحو 3 آلاف مقاتل تونسي نشط في سوريا والعراق، مع احتجاز 9 آلاف غيرهم في الموانئ، والمطارات، والمعابر الحدودية أثناء محاولتهم مغادرة الدولة، حيث اشتبه فيهم المسؤولون بأنهم يحاولون اللحاق بالمجموعات الجهادية في سوريا والعراق. لا تتوافر معلومات موثوقة حول عدد المقاتلين الذين التحقوا بهذه المجموعات منذ بدء حملة القصف الغربية ضد “الدولة الإسلامية” في شهر سبتمبر. ومع ذلك، تشير التقارير إلى زيادة في أعداد الجهاديين والأنشطة الجهادية. آخر الأرقام من أغسطس هذا العام (2014) تشير إلى انضمام 6 آلاف مقاتل جديد إلى صفوف الدولة الإسلامية منذ بداية توغلها السريع في شمال سوريا والعراق، وفقاً للمرصد السوري لحقوق الإنسان الذي يتخذ من المملكة المتحدة مقراً له. ويُعتقد أن 1300 من هؤلاء – مثل وليد – جاءوا من خارج سوريا والعراق.
داخل تونس، تتكرر الهجمات على الأهداف العسكرية والحكومية في وسط البلاد بشكل منتظم ومؤلم منذ ثورة 2011. ففي شهر رمضان الماضي، قتل 14 جندياً في منطقة شامبي. وقبلها بعام، أصاب اغتيال السياسي المعارض البارز شكري بلعيد، التحول الديمقراطي الناشئ في تونس بالشلل، حيث اعُتبر ذلك الحادث أنه رسم لخط مباشر بين حزب النهضة الإسلامي المعتدل الحاكم آنذاك، والحركة الجهادية الآخذة في التوسع. ويتزايد الخوف من الإرهاب باسم الجهاد ويسود جميع أنحاء تونس، من الشوارع الراقية في العاصمة، إلى المناطق المهملة في الصحراء الكبرى. ويقف رجال الشرطة بملابسهم السوداء وأسلحتهم الآلية على أهبة الاستعداد في جميع التقاطعات الرئيسية. كما تحيط الأسلاك الشائكة بالمباني الرسمية.
ومع اقتراب الانتخابات البرلمانية والرئاسية في وقت لاحق من هذا العام (2014)، فإن الجهاز الأمني في تونس يأمل في الأفضل ولكنه يستعد للأسوأ. محمد اقبال بن رجب يعرف الكثير من الحالات مثل حالة وليد. وكرئيس لجمعية إنقاذ التونسيين العالقين بالخارج، وهي مؤسسة خيرية محلية متخصصة في إعادة الجهاديين غير المقاتلين، فقد رأي المشهد المأساوي ذاته يتكرر في كثير من البيوت التونسية. “لا يدرك أحد أبداً أنهم قد اختفوا إلا بعد فوات الأوان. فالأمر دائماً مفاجئ. في بعض الأحيان، لا يحزمون حتى حقائبهم. في واحدة من الحالات، غادر ابن أمه الأرملة من دون كلمة واحدة. وهو يقبع حالياً في السجن في سوريا، تاركاً أمه وحيدة من دون أي شئ. ومنذ ليلتين، غادرت مجموعة جديدة مكونة من خمسة إلى سبعة أشخاص. لا أحد يعرف متى سنسمع عنهم مرة أخرى”. حتى الموت في الجهاد أمر غير مؤكد.
يواصل بن رجب: “من دون وجود جثة، تعاني العائلات الأمرين لفهم ما حدث. إنه عذاب نفسي كبير. في بعض الحالات، يتم إخبار العائلة بموت نجلهم، ثم بعد يومين، يتصل الابن ليوضح أن خطأ ما قد حدث. وأحياناً، يمر عام كامل، ثم تعرف الأسرة أن الابن قابع في السجن في مكان ما. وقد سمعت عائلة وليد هذه القصص. لذلك، هم لا يدرون ماذا يفعلون. لا يعرفون كيف يتصرفون”. بالتأكيد تقبل فكرة انتحار الابن أو الزوج أو الأخ – والآن الأب – ليس بالأمر الهين.
تجنيد الفئات الضعيفة
كل فرد في تونس يعرف قصة مشابهة لقصة وليد، وبالأخص فاضل عاشور، الإمام الشاب السابق لجامع الزيتونة في وسط العاصمة تونس، وكاتب عام نقابة الأئمة والمساجد. هو رجل ضعيف البنية تضيف لحيته الكثة عشرات السنين لعمره البالغ 33 سنةً. إلا أن سنوات عمله كإمام، جعلت منه خبيراً بالأساليب المتبعة في تجنيد الجهاديين. “هناك 5100 مسجد في تونس. نحن على يقين أنه في وقت ما، كان الجهاديون يسيطرون على 1060 منها. التقديرات الحكومية أقل من ذلك، ولكنني متأكد من الرقم الذي لدينا. هم [الجهاديون] ليس لديهم رسالة موحدة للجميع، فالأمر أكثر دهاءً. فهم يغيرون رسالتهم وفقاً لحاجة كل شخص. إنهم يعرفون مايريده الناس، وما ينقصهم، ويعدونهم بتحقيقه. إنها عملية منظمة للغاية. إنه نظام متكامل”. العملية بسيطة. يذهب من يتولون عملية التجنيد للمسجد حيث يمكن أن يتواجد نحو 1000 شخص هناك، ويراقبون الأمر لمعرفة من هو الضعيف ومن القوي، والسعيد والغاضب. الإمام عاشور يعرف جيداً كيف تجري الأمور، فكل من والده وجده من قبل كان إماماً.
هناك، يبهر الجهاديون أولئك الذين لم يغادروا مسقط رأسهم قبل ذلك أبداً، عن طريق النخبة الدولية للحركة. ويواصل عاشور: “هذا يتعلق بقادة فكر الجهاد. فهم يأتون من أوروبا وأماكن أخرى. وكل مدينة في كل دولة لديها ما تقدمه. إنهم يديرون استعراضاً للمواهب. كل دولة لديها مواهبها الخاصة، وهذا هو ما يبحثون عنه”.
شمالاً، في منزل مطل على ساحل البحر المتوسط الرائع ، يقول مايكل العياري، ممثل منظمة مجموعة الأزمات الدولية في تونس، وبيده فنجان قهوة وسيجارة، إنه يعرف موهبة تونس: “إنهم متعلمون. على الأقل، يعرفون القراءة والكتابة. يحصلون على مناصب مسؤولة، وهم قادرون على تنظيم العمليات”. الأهم من ذلك، غالباً ما تكون لديهم خبرات واسعة بعد الهجمات في كل من العراق، وليبيا التي مزقتها الحرب.
يشير العياري كذلك إلى تاريخ تونس الطويل من الاستعمار ونمو شبكات التهريب التي تعارض قيود أي سلطة مركزية. فمن العثمانيين إلى الفرنسيين، ساهمت القوى الاستعمارية في تونس في ازدهار الشمال وعدد من المدن الساحلية فقط. أما في بقية الأماكن، فقد كان التأثير الاستعماري سلبياً، حيث الضرائب وتطبيق القوانين الأجنبية. ومن العوامل التي ساهمت في تغذية هذا الشعور بالتفكك الداخلي كان اكتشاف الفوسفات على نطاق واسع في المناطق النائية جنوب تونس، حيث ذهب نصف العالم العربي إلى هناك وجلبوا أفكارهم معهم”. لذا، ليس من قبيل المصادفة أن تهب الرياح الأولى للثورة من المناطق الجنوبية في تونس، ثم امتدت لتجتاح شمال إفريقيا ومنها إلى قلب منطقة الشرق الأوسط.
قبل أحداث بلدة سيدي بوزيد الحدودية الصغيرة في ديسمبر 2010، والتي أدت في نهاية المطاف إلى سقوط نظام زين العابدين بن علي، كانت المقاومة ضد النظام التونسي تتقد جذوتها تحت السطح، وأحياناً كانت تشتعل. يقول العياري: “إنهم مسيسون بشكل أكبر. كانوا أول من انخرط في حركات الوحدة العربية، وأول من اتبع حركات الإسلام السياسي، والآن فإن الجهاد يستحوذ على الوضع هناك. ما يحدث في فلسطين، وفي العراق، وفي الجنوب. إنهم جزء من المنطقة أكثر من أي دولة أخرى”.
منذ عام 2003، وبتشجيع ومساعدة الشراكة الصامتة بين السلفيين والأجهزة الأمنية، غادر الكثير من الشباب الساخط لمحاربة الأمريكيين والقوات الغربية الأخرى في العراق. يقول العياري: “في مدينة بنقردان فقط [بلدة حدودية صغيرة جنوب تونس]، غادر 800 شخص للقتال في العراق. ومع ذلك، ففي أعقاب تغير سياسي كبير، نموذجي لما يحدث في المنطقة، تم القبض عليهم جميعاً، وحبسهم، وتعذيبهم بعد عودتهم في 2006. بعد الثورة، وعلى الرغم من العفو عنهم جميعاً، إلا أن وجهات نظرهم المتشددة ازدادت تطرفاً.
لذلك، فمن غير المرجح أن يحمل الكثير قدراً من التعاطف مع النظام الحالي في تونس، أو حتى في العراق. ولكن يؤكد العياري أنه من الخطأ وسم الذين يغادرون إلى الجهاد على أنهم جهلة أو أنهم لا شئ. “من بينهم أناس أغنياء ومتعلمون. هناك فكر حقيقي هنا. الكتاب أمثال أبومحمد المقدسي هم كتاب جادون. هناك أيدولوجية الجهاد التي يمكن مقارنتها بأي معتقد آخر”. بالنسبة للشباب في “سجنان”، أو نظرائهم في الجنوب، حيث يكون التهريب عادة البديل الوحيد لحياة من البطالة، فإن الفرصة لإعادة تعريف أنفسهم والبحث عن معنى من خلال شكل من أشكال الدين، لا بد أنها لا تقاوم. يقول العياري: “يمكنك الذهاب إلى سوريا للقتال من دون أن تكون جهادياً. وبالمثل، يمكنك ألا تذهب وتكون جهادياً. إنها المثالية التي تصنع الجهادي. إنها الأيديوجية الوحيدة المعادية للنظام في العالم العربي في الوقت الراهن. فهم يجعلونك تحلم”؟ يتوقف العياري ويضحك على فكرة خطرت له: “والنهضة- هل يجعلونك تحلم؟”
مجموعات من الأولاد
قصة وليد ليست استثنائية. سمع “سكوت آتران”، الباحث في الأنثروبولوجيا في المركز الفرنسي الوطني للبحوث العلمية، والزميل في جامعة أوكسفورد، قصصاً عديدة مماثلة. “مجموعات من الشباب، أحياناً عشرات يذهبون معاً. الأئمة قد يدفعوهم لذلك، ولكنهم عادة هم لا يحتاجون لدفعة كبيرة. معظم هؤلاء الشبان يبحث عن نفسه”. أظهرت دراسة حديثة أجراها آتران ورفقائه الباحثون حول التفاعل والتأثير عبر الإنترنت واجتماعياً، أن معظم هؤلاء يشكلون مجموعات خاصة بهم. يواصل آتران: “يمكنك تحديد التفاعلات الاجتماعية للشخص العادي عن طريق دوائر متحدة المركز، دائرة تمثلني “أنا” ودائرة تمثل “المجموعة”. وأنت تعطيهم خمسة أزواج متعاقبة من هذه الدوائر ليختاروا منها. تتنوع هذه ما بين دوائر منفصلة تماماً أو متداخلة تماماً. فقط الملتزمون فعلاً، أي المتشددون، هم من يختارون الزوج الأخير من الدوائر المتداخلة تماماً، حتى أنهم أحياناً يغفلون كل شئ آخر، حتى يظهرون أنه لم يكن هناك أي اختلاف بين “من أنا” و”من نحن”. هذه المجموعات المنصهرة تماماً لديها شعور خاص بالمصير وأنها لا تقهر، بغض النظر عن الخلاف أو القوى المحتشدة ضدهم”.
في مثل هذه الظروف، تتحرك المعلومات والآراء بشكل جانبي فقط. فالمعلومات تدخل إلى دائرة ما، ثم تتحرك دون أن يواجهها أحد، عبر جميع النقاط فيها، حيث تتضخم خلال حلقة لا نهائية تقريباً من الآراء. وكما يعرف أي دارس للموسيقى يصبح الصوت الجماعي متضخماً لدرجة تصم الآذان. ويختتم آتران دراسته بأنه مع غياب أي مصادر أخرى خارج الدائرة القريبة المباشرة تعارض أو تواجه المجموعة، فإن الرأي يصبح حقيقة ومن يعارضونه يصبحون كفاراً. وبالتالي، يساهم ذلك في نجاح من يستقطبون الشباب في اختراق مجموعات اجتماعية متماسكة مثل جماعة وليد، التي عندما سمعت نداء الجهاد، قامت بتحويل نفسها إلى جماعية متطرفة.
“سنجان” ومثلها عدد لا يحصى من المدن الصغيرة المنتشرة في جميع أنحاء تونس والوطن العربي بأكمله، توفر خيارات وفيرة لمن يستقطبون الجهاديين. يصف آتران عملية الاستقطاب الأساسية للجهاد قائلاً: “الجهاد يذهب مباشرة إلى الساخطين، وإلى ضحايا العولمة. فأنت تذهب إليهم وتقول لهم أنهم يضيعون حياتهم، وتعطيهم شيئاً ذي معنى. بل أكثر من مجرد معنى. أنت تقدم لهم شيئاً بطولياً. تخبرهم أنهم سوف ينقذون العالم، حتى وإن اضطروا لتدميره أولاً”.
حتى الأعمال الأرهابية المتعمدة – مثل الصلب وقطع الرؤؤس – فإنها تجذب أكثر ما تصد أو تُنَفّر. يقول آتران: “نحن نتحدث هنا عن أناس يؤمنون بالفعل بما يفعلونه. إنهم يرسلون رسائل مفادها أننا لا نساوم. لديهم شعور بالتسامي نادراً ما نراه. إنه إرهاب هنا، ولكنه إرهاب من نوع راقٍ. إنه مشهد مسرحي. إنه التعبير الدموي للقدرة على التحكم في الموت. ما نراه هي فضيلة أخلاقية مروعة تجفف الدم في العروق”. الإرهاب دائماً تدعمه أقوى العواطف.
السلفية، وهي التفسير الأصولي للإسلام الذي يغذي الجهاد العالمي، تخاطبهم مباشرة. في الثمانينات من القرن الماضي، وبمباركة علنية من الغرب، تمكنت دول عربية من تمويل انتشار مذهبها الأصولي في جميع أنحاء أفغانستان لموازنة الإلحاد المتبجح للمحتلين السوفيت. هذه البذرة التي تم ذرعها في سلسلة جبال بامير في آسيا الوسطى أثناء الغزو السوفياتي لأفغانستان، أورقت، وازدهرت وأثمرت منذ ذلك الوقت. الانهيار اللاحق للاتحاد السوفياتي ترك فراغاً ثقافياً مغايراً ساعد على ازدهار الجهاد، حيث اكتسب شرعية في الحروب التي تلت ذلك، ولاقى رواجاً في جبال البوسنة، والشيشان، وداغستان، حتى دخوله في الفراغ الأيدولوجي الذي تركته الثورات العربية في 2011. الحرب الغربية على الإرهاب في كل من العراق وأفغانستان شكلت مستنقعاً أخلاقياً يتمسك به الكثيرون للدفاع عن قضية الجهاد. في شمال إفريقيا، وفي الشرق الأوسط، فإن مقابل كل صورة مروعة لصحفي أو عامل إغاثة تقطع رأسه، هناك صور لا تحصى لجنود غربيين وهم يعذبون العراقيين والأفغان، أو يعاملونهم بإذلال.
الجهاد الأوسع في سوريا
الصراع في سوريا والعراق يجري ضمن هذا السياق من الجهاد العالمي الأوسع. وعلاوة على ذلك، فمع التقدم الأخير للدولة الإسلامية، التي أصبحت على قاب قوسين من الحدود التركية، فإن هذا الجهاد الحديث يشهد طفرة جديدة وحيوية في أنحاء أخرى أقل وضوحاً في العالم العربي. هؤلاء المنخرطين في الجهاد ليس لديهم شك حول الأخلاق المطلقة لرسالتهم. ومن دون فضيلة عليا أو غرض محدد، فإن أفعال مجموعات مثل الدولة الإسلامية التي تتكشف في سوريا والعراق تصبح بعيدة عن التصور.
يختتم آتران كلامه قائلاً: “الغرب يريد أن يصف الدولة الإسلامية على أنها نوع من عبادة الموت. ولكنها ليست كذلك. هؤلاء الشباب لديهم خارطة طريق نحو المجد. إنهم يستعينون ببوصلة أخلاقية ثابتة. لو نظرت إلى الدولة الإسلامية، والطريقة التي يعملون بها، إنها بسيطة: القناعة الأخلاقية تساوي النصر”.
لابد أن مثل هذا الوضوح مثير لدرجة كبيرة بالنسبة للشباب مثل وليد، الغارق في الأحياء الفقيرة من “سجنان”، والذين تتناقص الآفاق والفرص بالنسبة لهم مع كل تراجع في قيمة الدينار. في أعقاب تفجيرات قطار مدريد عام 2004، أجرى آتران دراسة في المغرب، حيث نشأ خمسة من السبعة الذين فجروا أنفسهم معاً في نفس المنطقة في تطوان، وذهبوا إلى نفس المدرسة الابتدائية والثانوية، ولعبوا كرة القدم معاً. يتذكر آتران: “سألت بعض الأولاد الذين يلعبون كرة القدم بجوار كومة قمامة عن أبطالهم. البطل رقم واحد كان “رولاندينو”، نجم كرة القدم في فريق برشلونة، والثاني كان بطل فيلم المبيد (Terminator). الذي لم يكن لديهم أي فكرة عن علاقته بحاكم كاليفورنيا آنذاك، والبطل الثالث كان “أسامة بن لادن”.
عاد آتران في نوفمبر 2008، وسأل نفس السؤال. فكان البطل رقم واحد هو “إيتو”، وهو نجم آخر في فريق برشلونة، ولكن البطل رقم ثلاثة الذي كان ينحصر بين المبيد، ورقم أربعة أسامة بن لادن، كان باراك أوباما. يقول آتران: “هذا يخبرنا بشئ في غاية الوضوح. هؤلاء الشباب يبحثون عن أبطال، وهم في مفترق طرق حيث ’نعم نستطيع‘ و ’السعادة في الشهادة‘، لهما نفس الجاذبية تقريباً. وبالمثل يشكك آتران في خطة الغرب لتجفيف منابع الجهاديين. “الأمر لا يتعلق بالمال، فالمقاتلون لا يهتمون بالمال. ماذا ستشتري إن كنت ستنقذ العالم؟ الإنسانية هو أن تبذل أقصى ما لديك سواء للخير أو الشر، للقتل أو الحياة، وليس من أجل العائلات وأقساط البيت”. في واقع الأمر، ومع مرور الأيام، تبدو حملة القصف الغربية المستمرة، وكأنها تقدم دليلاً آخر على وضوح دعوة الجهاد. موقعا Ask.fm و”تويتر” تمتلئان بصور القتلى الأبرياء ضحايا الهجمات الجوية الأمريكية.
يختتم آتران كلامه: “مشكلتنا هي ماذا نفعل بهذه الطاقة. ما الذي سينافس هذا النوع من اليقين؟ الإسلام المعتدل؟ ما الجاذبية في ذلك بعد الدولة الإسلامية؟ ماذا سنقدم لهم، أسواق تجارية”؟
يردد الإمام عاشور نفس الرسالة: “نريد أن نفكر في الكيفية التي يمكننا بها إعادة تأهيل العائدين، نفسياً، وروحياً، ودينياً. ماذا بوسعنا أن نقدم ليرجع هؤلاء المقاتلون إلى وطنهم. إنها مسألة ثقة. تكمن الخطورة في أن المقاتل العائد سيرى إماماً معتدلاً وينظر إليه على أنه كافر، وعبد للحكومة”. وبينما قد توفر الدولة الإسلامية لأتباعها الغضب النبيل اللازم للجهاد المقدس، يرى الإمام عاشور أنها ليست سوى مجموعة يائسة من الشباب الضائع والغاضب.
يقتبس بن رجب كلمات الخليفة معاوية بن أبي سفيان من القرن السابع ويقول: “’أحضروهم للنور‘. هم مستعدون لذلك. هم بحاجة إلى ذلك”. ولا يغيب مصير المقاتلين العائدين أبداً عن ذهن بن رجب. وقد اتصل به بالفعل عدد قليل من المقاتلين الأقل حماساً من نظرائهم للذهاب وراء راية الجهاد في مواجهة حملة القصف الحالية. ولكن ما يقلقه هو المنحى الذي سيسلكه تشددهم عندما يعودون. يقول بن رجب: “وفقاً لوزارة الداخلية، عاد نحو 250 مقاتلاً بالفعل. يتم القبض عليهم على الحدود، ولكن ليس هناك قوانين واضحة من جهة الفترة التي قد يقضونها في السحن. أحياناً قد تكون 10 أيام، وأحياناً قد تصل إلى عام كامل. عملت مع سيدة عاد ابن أخيها من سوريا وهو متشدد. الشاب حلق لحيته، ولكنه لم يتراجع عن أيدلوجيته قيد أنملة. ضربوه وأودعوه السجن في مرناق. ولكن كل ما نجحوا فيه هو أنهم أكدوا كل ما كان يعتقده في الحكومة. الآن هو يريد مقاتلتهم. أنت لا تعرف كيف تدربوا. لقد أعطوا هذا الشاب الحق في التفكير بهذه الطريقة. لقد أقنعوه أنه الطريق الصحيح. كل ما سيفعله الآن هو تجنيد مقاتلين آخرين في تونس”.
لا تغيب عن أحد حقيقة أن تسعة آلاف شخص في تونس لديهم الدوافع الكافية لمحاولة الذهاب إلى سوريا والعراق. يقول بن رجب” “إنهم [السلطات التونسية] يتوقعون شيئاً خلال الانتخابات. لا أعرف ماذا، ولكن الأمن أكثر إحكاماً. هل رأيت الأسلاك الشائكة خارج الكاتدرائية. لقد تم تمديدها منذ الانتخابات الماضية”.
بالعودة إلى تونس العاصمة، لا يزال محمد يحاول أن يبتلع حزنه. “المزيد من الشباب يغادرون. الحكومة لا تحاول حتى أن تمنعهم. رغم أنهم يعرفون من يجندهم، ولكنهم لا يفعلون شيئاً”. بعد موت وليد، الآن لدى محمد حفيد يتعين عليه تربيته. يقول: “أنا هنا. يمكنني أن أعتني بالطفل، ولكن هناك عائلات أخرى. من سيهتم بهم؟ في النهاية، كان وليد خائفاً من العودة إلى تونس بسبب ما كان يتنظره هنا. إن كان كل ما لدى الحكومة هو السجن، فإنهم يساهمون في خلق المزيد من الانتحاريين. إنهم يتسببون في مزيد من الأيتام”.
*****
سايمون سبيكمان كوردال صحفي يعيش حالياً في تونس.
الصورة من موقع وورلد بوليسي جورنال – نقلاً عن أمريكانز أبرود ميديا (Americans Abroad Media)