اضطراب “ملكة النحل”: حين تختبئ العنصرية في المصطلحات

آراء

خاص لـ هات بوست: 

العالم اليوم يُفترض أنه يتجه نحو العدالة والمساواة، ما زالت بعض المصطلحات تتسلّل إلينا من بوابات العلم والنظرية، لتزرع أحكامًا مسبقة في وعينا، وتكرّس صورًا نمطية على نحو ناعم وخفي. من بين هذه المصطلحات، يبرز ما يُعرف بـ”اضطراب ملكة النحل” أو Queen Bee Syndrome، الذي يُستخدم غالبًا للإشارة إلى النساء القياديات اللواتي لا يدعمن زميلاتهنّ أو يظهرن نوعًا من الصرامة والتفرد في بيئات العمل.

لكن، ما الذي تخفيه هذه التسمية؟ ولماذا تبدو أكثر إيذاءً مما تبدو عليه في ظاهرها؟

يشير هذا المفهوم إلى ظاهرة تُلاحظ – وفقًا للبعض – بين النساء في المناصب القيادية، حيث يُفترض أن المرأة التي وصلت إلى موقع قوة قد تُظهر سلوكًا تنافسيًا مفرطًا تجاه النساء الأخريات، وقد تتجنب دعمهن خوفًا من التهديد أو المنافسة.

لكن هذا الطرح يُغفل السياق الأكبر، ويُحمّل المرأة وحدها المسؤولية. وكأنها قررت بإرادتها الكاملة أن تكون “ملكة” لا تريد لأحد أن يقترب من عرشها، دون الالتفات إلى البيئة التي نشأت فيها، أو الضغوط التي واجهتها لتصل إلى هذا الموقع.

رغم أن المصطلح يبدو علميًا ومحايدًا، إلا أنه يحمل في داخله قدرًا كبيرًا من التحيّز اللغوي والاجتماعي. فهو يُصوّر المرأة الناجحة كحالة خطرة، أو غير متعاونة بطبيعتها، ويُغفل تمامًا أن الرجال في المناصب العليا قد يتصرفون بنفس الشكل، دون أن يُطلق عليهم مصطلح “اضطراب ملك النحل” مثلًا.

اللغة هنا لا تصف سلوكًا بقدر ما تُدين شخصية، وتُشكّك في أخلاقيات المرأة التي تتولى القيادة، وتجعل من الفردية أو الحزم سمة سلبية، فقط لأنها أتت من امرأة.

المرأة في مواقع القيادة قد تتصرف أحيانًا بصرامة أو تحفظ، ليس لأنها “ملكة نحل”، بل لأنها تعمل في بيئة تضعها تحت المجهر. فهي مطالبة دومًا بإثبات جدارتها، وتُقابل قراراتها أحيانًا بالتشكيك، وتعامل بحساسية مضاعفة. أي أنها لا تُمنح المساحة الطبيعية للتصرف كقائدة، وإنما يُحمّل سلوكها تأويلات لا تُحمّل لغيرها.

يتحوّل الخطاب إلى تشخيص سلوك المرأة على أنه “اضطراب”، وكأن الخلل فيها لا في المنظومة.

اللغة ليست أداة وصف فقط، بل هي أداة تشكيل للواقع. حين نستخدم مصطلحات مثل “ملكة النحل”، نحن نُعيد إنتاج سرديات قديمة تُشكّك في أهلية المرأة، وتربط نجاحها بالأنانية أو العزلة. والأسوأ من ذلك، أننا نظن أننا نتحدث بموضوعية، بينما نحن في الحقيقة نُكرّس نوعًا من العنصرية الرمادية – تلك التي لا تصرخ، لكنها تُهمس بخبث.

لسنا بحاجة إلى إعادة تعريف المرأة القيادية، بل إلى إعادة النظر في اللغة التي نصف بها حضورها.

المرأة ليست مضطربة حين تنجح، ولا أنانية حين تحمي موقعها، ولا مختلفة حين تختار أن تكون قائدة.

إنما المختلف حقًا هو المنظور الذي لا يزال يراها استثناءً، ويبحث لها عن مصطلح لا يشبه إنجازها.

هناك سؤال يتسلل في خلفية كل حديث عن العدالة في المهن والقيادة:

هل صُممت بيئة العمل أصلًا لتحتوي الرجل والمرأة على قدم المساواة؟ أم أنها وُضعت منذ البداية وفق مقاسات لا تشبه الجميع، وتُفصَّل على جسد اجتماعي واحد لا يترك مساحة للاختلاف؟

عبر التاريخ، تطورت نظم العمل الرسمية في سياقات اقتصادية صناعية، غالبًا ذكورية، أي أن بيئة العمل – بأعرافها، وساعاتها، و بطولاتها اليومية – صُممت وفق نموذج الرجل المعزول عن الأعباء الأخرى، لا وفق نموذج الإنسان المتعدد الأدوار.

حين دخلت المرأة سوق العمل، لم يُعد النظر في شكل هذا السوق ولا قواعده. بل طُلب منها أن تتأقلم، أن “تتشبّه”، أن تُثبت جدارتها ضمن منطق لا يشبهها أصلًا. فإذا كانت مرنة أكثر من اللازم، وُصفت بالضعف، وإذا كانت حازمة، وُصفت بالقسوة وإذا حاولت التوفيق بين بيتها وعملها، عُوملت وكأنها تُشتّت طاقتها إنها عاطفية وتقاد بهرموناتها .وكأن النظام يُكافئ من ينفصل عن إنسانيته، لا من يوازنها.

المشكلة الحقيقية ليست في الرجل أو المرأة.

بل في بيئة العمل، ذلك القالب الصلب الذي لا يتسع للفروقات الإنسانية.

بيئة العمل الحديثة تحتاج ألا تُكرّس الفوارق، بل أن تُعيد تصورها بالكامل.

أن تنتقل من منطق “احتواء الاستثناء” إلى منطق المرونة الشاملة.

إن إعادة النظر في بيئة العمل ليست رفاهية، بل ضرورة حضارية.فالمرأة ليست نسخة مخففة عن الرجل. وما لم تتغير البيئة لتحتضن الجميع، سيظل السؤال عالقًا في الزاوية:

هل نعمل لنثبت أننا نصلح لهذا القالب؟

أم أننا نحتاج إلى قالب جديد يُشبهنا حقًا؟