اغتراب العقل الأكاديمي.. تأملات في غياب المشروع المعرفي في الجامعات العربية

آراء

     يشكّل العقل الأكاديمي أحد الأعمدة الحيوية لبناء الوعي المجتمعي، وتشكيل المشروع الحضاري للأمم، وتكوين الخطاب العلمي الممنهج، القائم على الأسس والمفاهيم المتعارف عليها في نطاق الجامعات ومؤسسات التعليم المختلفة، وفق آليات تسمح بنشر الثقافة المقننة، والمشروعات العلمية ذات الطابع الأكاديمي والفكري، غير أن المتتبع لمسار الجامعات العربية يجد أن هذا العقل (الأكاديمي) يعاني من حالة اغتراب متفاقم تتركز في انفصاله عن وظيفته الأساسية في إنتاج المعرفة البحثية، وتقرير الوعي النقدي، والإسهام الفاعل في بلورة مشروعات حضارية وثقافية تعكس خصوصية الواقع الجامعي، وتتماهى مع هوية المجتمع، وتستجيب لمتغيرات العصر وتحولاته سريعة الوتيرة.

      من -هنا- بات المشروع المعرفي والرؤية الفكرية والعلمية للجامعات يخضع لمعايير تصنيف مختلفة، تبدأ من التسطيح المنهجي وتنتهي بالوقوف عند المعرفة بوصفها إنتاجاً داخلياً يهدف إلى مجرد التعليم دون التأهيل والممارسة الفاعلة، والمؤثرة في تكوين الفرد أو المتعلم، فأضحت المعايير الدولية أو المحلية التي تتمثلها الجامعات أولى من الحاجات المعرفية الملحة.

     هذا الوضع أسلم إلى مشكلتين رئيستين: المشكلة الأولى نشوء ما يسمى بالقطيعة المعرفية بين الجامعة والمجتمع، إذ تركزت الدراسات البحثية ذات الأولوية القصوى في الجامعات على جانب الاهتمام بالمعايير الفنية، وأنظمة التصنيف والجودة، والمقارنات المختلفة، وبات الأستاذ الأكاديمي محصوراً في دائرة ضيقة من التخصصات والتوجهات البحثية التي لا تتناول هموم المجتمع، ولا تتفاعل مع قضاياه المركزية، وبهذا الاتجاه تقلص دور الجامعات في خدمة المجتمع، ودعم أنشطته، وتعزيز أهدافه، ونشر الثقافة.

     والمشكلة الأخرى وفي ظل هذا التفاقم غير المعرفي أضحى العقل الأكاديمي في الجامعات منشغلاً بإنتاج أوراق بحثية (أُعيد تصنيعها) تستهدف النشر في دوريات محلية أو دولية بهدف الترقية، أو إثبات الحضور الفكري و(التأليفي)، أو المشاركة في ندوات تستقطع جزءاً من جهد الأكاديمي على حساب مشروعه العلمي أو التعليمي، كل ذلك أثر في تفاعل الجامعة وأساتذتها مع الواقع المحلي، وعمّق حالة الاغتراب المعرفي، وأبعد النجعة بين الفكر والممارسة.

     هذا الاغتراب-من وجهة نظري- لا أظنه مجرد ظاهرة عابرة يمكن أن نتغاضى فتضمحل، ويكون الزمن كفيلاً بعلاجها، ولكنها ظاهرة تستحق الوقوف لارتباطها المباشر بصنع المعرفة ونقلها، وبناء الإنسان، وإهمالها يؤدي حتماً إلى تراجع الأداء الأكاديمي والبحثي، وفقدان حوافز التعلم والإبداع، ناهيك عن أثرها (العميق) في تشكيل هوية مهنية أو ذاتية غير مستقرة.

     لذا فإن إعادة صياغة العلاقة بين الجامعة وأفرادها مطلب مهم لتعزيز البحث العلمي، وتأطير ثقافة التعليم و(التدريس)، لا لأجل أن ذلك يُعد نشاطاً معرفياً فحسب، بل بوصفه أفقاً فكرياً يُعيد تشكيل أسس العلاقة بين (الإدارة) و(المعرفة) أو إنتاجها، كما أنه يُحيل الجامعة إلى فضاء فكري مرن تتلاقح فيه العقول، وتتكامل فيه الرؤى وفق سياسات معرفية واضحة تسهم في رسم مسارات فكرية جديدة في صميم المجتمع.

    إعادة صياغة هذه العلاقة على أسس من الشراكة الفكرية القائمة على الثقة المتبادلة، والضوابط الأخلاقية المقررة، تشرع أبواباً أمام الباحثين والمفكرين لإنتاج معرفة تتبنى كل ما هو جديد، وتستهدف التطوير، وتنطلق من إيمان عميق بأن البحث العلمي ليس مُنتجاً يُستهلك، بل ممارسة ذات فاعلية فكرية ومنطقية تمنح الإنسان القدرة على الفهم والتجديد، وتجعل من الجامعات منارة مشرقة للبحث والتحصيل، وتُعيد للبحث العلمي هيبته ومكانته، بوصفه فعلاً إبداعياً يصقله الحوار، ويُغذيه الشغف، وبذلك يغدو فاعلا رئيساً في تشكيل الوعي، وصنع المعنى، وتنمية التفكير النقدي، وتعزيز ثقافة الانفتاح، وعاملا مباشراً في إنتاج المعرفة الرصينة، وتحليل الظواهر المجتمعية بعمق، كما يُسهم في صنع القرار، وتحديد المسار.