كاتب سعودي
كثر الحديث في الآونة الأخيرة عن موضوع استثمارات الدولة لاحتياطاتها النقدية، البالغ إجمالها في الداخل والخارج ما يقرب من 4 تريليون ريال.
هناك من يرى ضرورة استثمار كامل المبالغ بعوائد لا تقل عن ثمانية في المئة؛ لدعم هذه الاحتياطات، تحسباً لأية أزمات قادمة قد تعصف بسعر النفط، ولاسيما أن موارد الدخل الأخرى في بلادنا محدودة جداً.
أما رأي الحكومة، ممثلة بوزارة المالية، فيميل إلى استثمار الثلث فقط – أي ما يقرب من 1200 بليون ريال – في محافظ متنوعة، بمعدل عوائد سبعة في المئة، والإبقاء على ثلثي المبلغ، وهو 2700 بليون ريال، في سندات خزينة أجنبية بلا عوائد تذكر.
عندما تفعل الحكومة ذلك، وحتى مع استثماراتها ذات الربحية، فهي تهوي بالمعدل الربحي لكامل المبلغ الاحتياط إلى 2.4 في المئة (اثنين وأربعة من الـ10 في المئة) فقط في العام.
نحن إذاً نتجادل في عائد سنوي، يتراوح بين أقل بقليل من 100 بليون، وهو ما يتوافر حالياً، و300 بليون ريال تقريباً، وهو ما قد يتوافر فيما لو تم استثمار مبالغ إضافية.
ومع أهمية هذه المناقشة وحيويتها، أود لفت النظر هنا إلى موضوع آخر، يتصل بالمال السعودي ولا يحظى بكثير من اهتماماتنا مع الأسف الشديد.
أتحدث – يا سادة – عن الدورة المالية داخل الوطن، والتي أراها أخطر بكثير من غياب «الصندوق السيادي» في المملكة، وعلى رغم ضخامة الموازنة والنفقات الحكومية؛ نلاحظ هرب معظم الأموال إلى الخارج بأرقام مفزعة، وليتنا نستقبل ما يعادلها أو أقل بقليل من ذلك، إذاً لهانت المصيبة، لكننا لا نستقبل إلا الجزء الضئيل فقط، وهو ما يأتي من زوار الأماكن المقدسة في مواسم محددة. التركيبة الاقتصادية في بلادنا، إضافة إلى العوائق البيروقراطية والاجتماعية، لا تمكننا من إغراء المستثمرين العالميين في مجال الخدمات، ولا الزائرين إلى بلادنا لغرض السياحة، ولا تمكننا حتى من إغراء السكان، سواء مواطنين أم أجانب، بالإنفاق داخل المملكة. المبالغ التي تغادر الوطن تتجاوز ما يقرب من ثلاثة أرباع التريليون ريال سنوياً، ما بين تحويلات أجانب يعملون في المملكة، وإنفاق سواح سعوديين في الخارج، ومبالغ التجارة الخفية التي لا يراقبها أحد، والتي تتجاوز أرقامها نصف تريليون ريال (الحياة 8 كانون الثاني (يناير) 2015).
نحن نتحدث عن إجمالي أموال توازي موازنة الدولة لهذا العام. لو نعمل على الحد من هذا النزف؛ لتمكنا من الإبقاء على جزء كبير من هذه الأموال في داخل الوطن، ولو نعمل على تطوير الأنظمة في الداخل، ونحد من البيروقراطية والقيود الاجتماعية المبالغ بها؛ لانكب الزوار على بلادنا وأنفقوا مئات البلايين في مناطقنا التاريخية والسياحية الجميلة، لو نجتهد أكثر وتتحول مدننا إلى مراكز حيوية لتنظيم المؤتمرات الدولية والمناسبات العالمية الكبيرة؛ لاكتشفنا كم كنا مقصرين في الماضي في إهدار الفرص الهائلة.
هرب هذه الأموال إلى الخارج، إضافة إلى استمرار نهج اقتصاد «الدولة الريعية» في المملكة، والذي يكلف موازناتنا كثيراً من الهدر والغياب المرعب لتنوع مصادر الدخل التي أشرت إلى بعضها هنا، حتماً يدعو أي مطلع ومتابع إلى القلق الكبير.
من هنا، فالحاجة إلى مراجعة هذه الظاهرة، وتطوير الهيكل الاقتصادي السعودي العصري؛ بنظري أهم بكثير من الجدل في وجهتي نظر الصندوق السيادي، وإن كنت أظن أن بإمكاننا عمل الاثنين في وقت واحد، ولو فعّلنا الصندوق السيادي، إضافة إلى ما أشرت إليه، لزادت مداخيلنا الكلية المتنوعة إلى ما يقرب من تريليون ريال سنوياً، وهذا يتفوق على رقم الموازنة السعودية، وكل ذلك خارج المبيعات النفطية. أما إذا أضفنا إلى ذلك مداخيل النفط فإن الأرقام سترتفع كثيراً.
هذه حقائق وليست أحلام أيها الإخوة. تخيلوا فقط عدد الفرص الوظيفية الجديدة مع بقاء هذه الأموال الهائلة في الداخل، وتفعيل المصادر الجديدة للدخل.
ألا يقلقنا هذا الشح الكبير في فرص العمل اللائقة؛ ونحن نحتضن الملايين من أبنائنا وبناتنا الدارسين في مدارسنا وجامعاتنا، وننتظر تخرجهم ونحتفل بذلك كل عام؟
ألا يقلقنا تدنّي مستوى الخدمات في بلادنا الغنية بكل شيء، هذا التدنّي المفزع الذي يدفع بالكثيرين منا إلى التمتع بإجازاتهم في الخارج على رغم تشابه الأجواء الطبيعية؟
الأغرب في الواقع ليس وجود هذه الظاهرة أو الظواهر المزعجة والباعثة على القلق، بل الصمت المطبق عنها وكأن الأمور كما يقال «سهود ومهود».
متى كانت آخر مرة سمعتم عن ندوة أقيمت لمناقشة هرب هذه الأموال؟ أو ندوة عن محدودية فرص العمل وصغر الوعاء الوظيفي في المملكة بشكل عام؟ أو عن التجارة الخفية وكيفية مواجهتها، وهل يتم تجريم مرتكبها الأجنبي والمواطن الذي يغطي عليه؟ أو عن السياحة في المملكة، والعوائق التي تقف حائلاً أمام تطورها؛ لتتحول إلى رافد مهم من روافد الدخل الوطني؟ الواقع أن تأخرنا في معالجة هذه المواضيع الساخنة سيكلفنا الكثير مستقبلاً.
انشغالنا الكبير في الغالب الأعم – ومع بالغ الأسى والأسف والحيرة – إما يرتبط بحادثة مفزعة ارتكبها عضو منفلت من الهيئة، أو بهزيمة قاسية تلقاها فريق كروي، أو فتوى طائشة من «داعشي» مندس بين من يسمون «الدعاة» في مجتمعنا، أو تصويت غبي من مجلس الشورى على قضية هامشية، وهكذا. الهموم الكبرى المصيرية لا نسمع عن مناقشاتها أبداً.
كلي دعاء وأمل، بأن نبدأ ومن هذا العام بجدولة الورش المتنوعة، والندوات والمؤتمرات التي تستهدف مناقشة مستقبل الوطن الاقتصادي والاجتماعي، ونرفع درجة الاستعداد والحذر، بما يمكننا من مواجهة أية أزمات في المستقبل.
إنها الفرصة المواتية للخوض في هذه التفاصيل، مع توافر السيولة النقدية حالياً، قبل أن نضطر إلى فعل ذلك تحت ضغط ظروف أخرى، كون وصولنا إلى تلك النقطة الزمنية لن يساعدنا في ترتيب شؤوننا بالطرق السليمة الناجعة.
هذا العمل هو مسؤولية عدد من الجهات الحكومية، وأهمها مجلس الأمن الوطني، كون القضية أمنية في الدرجة الأولى، ثم وزارة الاقتصاد والتخطيط المناط بها تنظيم مسيرة البلاد اقتصادياً، والتعاون مع أجهزة حكومية أخرى؛ لتحييد بعض العوائق الاجتماعية، التي تثير الرعب في عقول المستثمرين في القطاعات السياحية والترفيهية والخدماتية بشكل عام، وأخيراً وليس آخراً المجلس الاقتصادي الأعلى الذي يفترض أن يحلل الصورة الكبرى المستقبلية للبلاد من النواحي الاقتصادية.
ومن حسن الحظ – ولله الحمد – أن جميع القائمين على هذه الجهات المهمة من المسؤولين السعوديين؛ يملكون ما يكفي من الوعي والمواطنة الحقة المطلوبة لتفعيل ذلك، ورفع مستويات الاهتمام بما يؤدي إلى الوصول إلى استراتيجيات جديدة.
فهل نفعل وننطلق وندعو خبراء الداخل والخارج إلى بحث هذه المواضيع المصيرية في مناقشات حيوية؛ بما يؤدي إلى وضع التوصيات التي نتطلع إليها، ثم ننطلق إلى آفاق واعدة تضمن، بعد عون الله وتوفيقه، مستقبلاً مطمئناً لأجيالنا القادمة من بعدنا؟ هذا ما أتمناه ويتمناه كل مواطن يضع يديه على قلبه قلقاً في بعض الأحيان، وحباً وتفادياً في كل الأحايين لهذا الوطن ومستقبله.
المصدر: الحياة
http://alhayat.com/Opinion/Fahad-Al-Dgheter/