روائي، وباحث في العلوم السياسية ، وكاتب صحفي
يبدو سؤال مثل: هل موسيقى موزارت ذات طابع برجوازي؟ أمراً عبثياً، ولكن إمعان النظر فيه يمكن أن تنجم عنه نتائج محددة إذا ما تمت الإجابة عليه بنعم. وقد وصل الأمر بعلماء السياسة إلى البحث عن الجوانب الجيوسياسية في كرة القدم، ففي كتاب صدر عن أحد المراكز الاستراتيجية الفرنسية، شاركت في إعداده نخبة من الباحثين، تم التعامل مع هذه اللعبة على أنها متابعة الحرب بوسائل أخرى هذا هو الوصف الذي كان المُنظِّر الاستراتيجي كلاوزفيتش قد أطلقه على السياسةـ وأنها صارت الظاهرة الأكثر كونية في عصر العولمة، إذ إنها تبدو أشمل من اقتصاد السوق وعملية الدمقرطة، وأنها صارت إحدى الأدوات القوية في الدبلوماسية الدولية، حيث يمكن، في رأي هؤلاء، أن تساهم في توحيد شطري كوريا أو تدفع عملية السلام بين الفلسطينيين والإسرائيليين، كما يمكنها أيضاً أن تكون إحدى وسائل تحقيق الوحدة الوطنية في البلاد متعددة الأعراق واللغات والديانات، حيث تتضافر مختلف الجماعات حول المنتخب الوطني، الذي يعد رمزاً تعلق عليه الأمة بعض آمالها، خاصة إذا كان يضم تحت لوائه لاعبين ينتمون إلى هذه الجماعات.
وتنبع هذه التصورات من شيئين أساسيين، الأول: أن العملية السياسية تبدو معقدة للغاية، نظراً لتداخلها الشديد مع حقول معرفية ونشاطات إنسانية أخرى، ويأتي التحليل ليبسطها عبر نماذج تأخذ أشكالاً مختلفة تتراوح بين الكلام اللفظي الصرف والحسابات الرياضية الدقيقة، والثاني: أنها عملية تتسم بالشمول، إلى حد كبير، إذ إن كل النشاطات البشرية قابلة للتسييس عندما تدخل في صميم اهتمامات السلطة السياسية.
وعندما يربط الإنسان فكرياً بين ظاهرة ما والنظام السياسي تكتسب تلك الظاهرة معنى سياسياً، بحيث من الممكن أن يصبح كل نشاط بشري عملاً سياسياً، في ضوء تطور الواقع الاجتماعي، اقتصادياً وتقنياً، أو على حد قول روبرت دال: «سواء شئنا أم لم نشأ فلا يوجد أحد قادر على أن ينأى بنفسه عن الوقوع في دائرة من دوائر التأثير لنظام سياسي ما. فالمواطن يتعامل مع السياسة عند تصريف أمور الدولة، المدينة، المدرسة، الكنيسة، الشركة، النقابة، النادي، الحزب السياسي، الجمعيات التطوعية، وغير ذلك من منظمات عديدة أخرى. فالسياسة هي حقيقة من حقائق الوجود الإنساني، لا يمكن تجنبها. وكل فرد يجد نفسه مشتركاً بطريقة ما، في لحظة ما، في شكل من أشكال النظم السياسية.. وإذا كان المرء لا يمكنه تجنب السياسة، فإنه بالضرورة لا يمكنه تجنب النتائج المتولدة عنها».
وحتى الأدب والفن يجدان نفسيهما، بوصفهما ظاهرة اجتماعية، متماسين مع العملية السياسية، فهما أقرب إليها من نشاطات إنسانية أخرى. ويصل الأدب أحياناً إلى درجة أنه يبدو نوعاً من الممارسة السياسية، ويصبح الأديب رجل سياسة، ولكن بطريقته وأدواته الخاصة. وقد لخص نجيب محفوظ هذا الموقف في عبارة بليغة قال فيها: «ليس هناك حدث فني، بل حدث سياسي في ثوب فني». وليس معنى هذا أن محفوظ يقر بليِّ عنق الأدب لخدمة أيديولوجيات معينة بما يقضي على الجانب الجمالي فيه، ولكنه يتحدث عن حضور السياسة كسياق عام، وممارسة اجتماعية في النص الأدبي، أي يشير إلى تأثير الواقع المعيش على الأدب.
وليس هذا فحسب بل إن الأدب بمختلف ألوانه يلعب دوراً سياسياً مباشراً، أو غير مباشر في الحياة السياسية، ففضلاً عن كونه قد يكون أداة في يد السلطة لتشكيل وعي المجتمع بما يخدم مصالح طبقة أو فئة معينة، أو على النقيض، قد يصبح أداة لمقاومة استبداد السلطة بالحيلة تارة وعنوة تارة أخرى فهو أيضاً أحد العناصر الرئيسية التي تكوّن وجدان الأمم، ويساهم مع غيره، من أدوات التشكيل الثقافي في صياغة شخصيتها القومية وبلورة هويتها الحضارية، كما يعتبر أحد المصادر الأساسية لدراسة الشعوب.
ويتداعى إلى الذهن في هذا المقام، ما ذكره محمد حسنين هيكل، في مقال مطول له عن حرب البلقان، التي جرت عام 1999، من أن سفير سوريا في بلجراد خلال فترة الستينيات، الدكتور ثابت العتريس، نصحه بقراءة رواية «جسر على نهر إدرينا» لإيفو أندريتش، حين كان هيكل يريد أن يعرف الطبيعة السياسية للمجتمع اليوغسلافي، قبل أن يجري حواراً مع الرئيس جوزيف تيتو. وقرأ هيكل بالفعل هذه الرواية، التي استحق عنها كاتبها جائزة نوبل عام 1961، وأكد أنه فهم من خلالها طبيعة المجتمع اليوغسلافي تماماً.
واتجهت بعض الدول لفحص الإنتاج الأدبي لأمم أخرى لتتعرف من خلاله على بعض جوانب تكوينها النفسي والاجتماعي، فالمخابرات الأميركية كلفت عدداً من أساتذة الأدب الياباني بجامعات الولايات المتحدة، خلال الحرب العالمية الثانية، بتحليل الأدب الياباني للوقوف على خصائص الشخصية اليابانية. ولما اشتد التنافس بين الولايات المتحدة الأميركية والاتحاد السوفييتي السابق، اتجه جهاز المخابرات المركزية الأميركية «سي. آى. إيه» أيضاً إلى العناية بالأدب السوفييتي؛ للتعرف على ملامح المجتمع الروسي. واهتم الإسرائيليون بدراسة الأدب العربي، وراحوا يترجمونه منذ وقت مبكر، في حين اهتمت بعض مراكز البحوث العربية بدراسة الأدب الصهيوني؛ للغرض نفسه.
ولم يقف الأمر عند هذا الحد، فقد تردد أن المخابرات المركزية الأميركية، ساعدت في الترويج لاتجاه «الحداثة وما بعد الحداثة» في الإبداع والنقد الأدبي، من أجل الحد من مدرسة الواقعية الاشتراكية، التي امتد نفوذها إلى العالم أجمع. وتم تنفيذ ذلك عبر ما يسمى بالمجلس الثقافي الحر، الذي أنشأ مكاتب في 35 دولة وقام بتعيين مئات الموظفين، وتمويل عشرات المجلات، وتنظيم مئات المعارض والمؤتمرات، وتخصيص عشرات الجوائز للأدباء الذين سلكوا هذا الاتجاه، ودفع رواتب منتظمة لعدد من النقاد، خاصة اليساريين الذين عارضوا التجربة الشيوعية للاتحاد السوفييتي السابق، ليعدوا دراسات متعمقة ذات طابع نظري تؤصل لهذا المدرسة الأدبية. ونظر بعض المفكرين العرب للأدب على أنه وسيلة مهمة، لبعث الروح القومية، والحفاظ عليها. ولذا نجد أن مفكراً قومياً كبيراً، مثل ساطع الحصري، يطالب الأدباء بأن يتحملوا مسؤوليتهم تجاه المجتمع، ويؤمنوا بوحدة الأمة ولا يستسلموا لنوازع الإقليمية أو يندفعوا وراء فكرة العالمية، ويجندوا إنتاجهم الأدبي في خدمة القومية العربية. وشبه الحصري المنتوجات الأدبية من حيث تأثيرها الاجتماعي ببعض المصنوعات المادية، ورأى أن من الأدب ما يعمل عمل أسلحة الحرب والنضال، ومنه ما يعمل عمل آلات الحرث، ومنه ما يعمل عمل أدوات الزينة، مثل القلائد والأساور، ودعا الأدباء العرب لأن تكون كتاباتهم أسلحة في مواجهة أعداء الأمة، ومحاريث تساهم في زيادة إنتاجها وتقدمها.
المصدر: الإتحاد