جمال خاشقجي
جمال خاشقجي
كاتب سعودي ويشغل حالياً منصب مدير قناة "العرب" الإخبارية

الأسمنت والقمح في «قمة الدوحة»

آراء

بالطبع لم تناقش قمة الدوحة قضية ارتفاع أسعار الأسمنت في العالم العربي وشح الكميات المنتجة منه، ولا حاجة العرب المتزايدة من القمح بعدما عجزت أراضيهم الشاسعة، بما في ذلك الغنية بالمياه، عن توفيره، لقد ناقشت قضايا الأمة العربية المصيرية «في هذا الظرف الدقيق والمنعطف الخطير الذي تمر به» كالعادة، وعلى رأسها اليوم القضية السورية، وبالتالي كان من المفيد لو طرح أحدهم سؤالاً: من سيبني سورية من جديد؟ وهل ما تنتجه المصانع العربية من الأسمنت كافٍ؟ وكيف نوفّر أطناناً من القمح لإطعام أفواه جائعة في ظل اضطرابات سياسية خطرة؟ من هنا تأتي أهمية مناقشة قضية الأسمنت والقمح في العالم العربي. قد يبدو من غير اللائق طرح سؤال: «من سيبني سورية الجديدة؟» ولما يجد العرب بعدُ سبيلاً لوقف التدمير والقتل الجاري كل يوم في سورية القديمة، و «من سيطعم المصريين في جمهوريتهم الثانية 250 مليون رغيف يحتاجونها كل يوم؟» بينما يختصم ساستها حول شرعية النائب العام؟ من المفيد أن نقسي قلوبنا، ونتعامل مع المستقبل ببرود، ونشكل لجاناً لتطرح هذه الأسئلة!

في نهاية العام الماضي اجتمع في برلين نحو 45 سورياً يمثلون مختلف التيارات المعارضة، بعضهم كان ممن خدم في الحكومة وانشق عنها، لوضع خطة سمّيت «مشروع اليوم التالي في سورية» برعاية ودعم من معهد أميركي وآخر ألماني. لقد وضعوا أفكاراً رائعة شكلت خريطة طريق لسورية بعد سقوط نظام بشار الأسد في ما يخص تحولها نحو الديموقراطية، وإعادة بناء الدولة ونشر الأمن ووضع الدستور، وأخيراً الإنعاش الاقتصادي وإعادة الإعمار (توجد نسخة مفصلة للدراسة في موقع معهد السلام الأميركي)، ولكنهم لم يناقشوا بالطبع توفير الأسمنت الذي لا ينتج منه في سورية القديمة غير 6 ملايين طن، والله أعلم كم شهراً تحتاج إلى إعادة تشغيل ما خرب من مصانعها. أكبر دولة عربية منتجة للأسمنت هي مصر بـ48 مليون طن، ثم السعودية بـ42 مليون طن، ولكنهما رغم مشاريع التوسّع في افتتاح المصانع، ترتفع أسعار الأسمنت فيهما اطراداً، نتيجة الطلب المتزايد لبناء وحدات سكنية في كلا البلدين، والغالب أن هذا الطلب سيزداد مع انفتاح السعودية على أنظمة التطوير العقاري الشامل، من رهن عقاري وقضاء تنفيذي وتمويل مصرفي، ولا يحول بين حصول طفرة حقيقية في بناء المساكن غير الارتفاع الفاحش لأسعار الأراضي السكنية واحتكارها.

ولكن من سيوفّر الأسمنت للسوريين إذا كان السعوديون يمنعون تصديره، والمصريون يحتاجون إلى كل كيس منه؟ بل من سيموّل إعادة إعمار سورية؟ فهي ليست مثل ليبيا النفطية التي مرت بتجربة مدمرة مماثلة، ولكن لديها من المال ما يغنيها. سورية تفتقر إلى النفط باستثناء 300 ألف برميل تنتج يومياً، بعضها يصدر للخارج، ولكن يحتكر عوائدها الرئيس بشار الأسد وعائلته، كما أن الدمار فيها أكبر مما حصل في ليبيا. هل ستتسابق الشركات السعودية والتركية للاستثمار في سورية، أم أن أموال السوريين الهائلة في الخارج هي التي ستحل المشكلة؟ ولكن قبل ذلك كله لا بد من وقت لإعادة بناء مؤسسات الدولة، وكتابة الدستور، وإجراء انتخابات قبل أن نفكر في توفير الأسمنت للسوريين.

القمح هو الآخر إشكال عربي جماعي، فالسعودية مثلاً ستتوقف عام 2015 عن زراعة القمح، بعد أن استُهلك بعبثية مخزون الأجيال من المياه الجوفية التي لن تتجدد، على رغم أنها لا تحتاج سوى 3 ملايين طن فقط من القمح، ولديها المال الوفير لاستيراده من روسيا أو أستراليا. المشكلة في مصر التي تحتاج 19 مليون طن، أنها لا تنتج سوى نصفها، ولا تتوافر لديها العملة الصعبة -نزل احتياطيها إلى 13.5 بليون دولار كافية لاستيراد حاجات البلاد لثلاثة أشهر فقط-، يضاف إلى ذلك أن مصر لم تبنِ ما يكفي من صوامع الغلال، على خلاف السعودية، وبالتالي تضاف كلفة التخزين إلى سعر طن القمح.

نظرياً، فإن الحل لكل العرب موجود في أراضيهم الخصبة، في العراق وسورية والسودان والجزائر، ولكن السياسة تجعل المملكة تفضل أن تبحث في روسيا عن آفاق زراعة القمح من خلال شركات خاصة تملكها، ولا تذهب للجزائر التي يحكمها عسكر من الصعب التفاوض معهم. بعد الثورة، اكتشفت مصر أن ثمة بلاداً جنوبَها تدعى السودان، فبدأت بدرس زراعة مليون فدان فيها، ولكنها خطة طويلة الأمد، وتحتاج إلى دعم عربي واهتمام داخلي بعد أن يفرغ الساسة من قضية «النائب العام» ومكايداتهم السياسية.

لقد استخدمت «الأسمنت والقمح» للإشارة إلى مدى التداخل بيننا كعرب، فعلى رغم الحدود التي تفرق بيننا، والرسوم الجمركية المتباينة، ووجود دول تدعم صناعة الأسمنت، كالسعودية، وأخرى لا تدعمها، كمصر، ودول لديها الخبرة والمال لزراعة القمح، كالسعودية، ودول لديها الأرض والماء واليد العاملة، كالسودان، فإننا جميعاً نتأثر بالتحولات الاقتصادية في ما حولنا، بخاصة في المنتجات الأساسية، كالحديد والأسمنت والقمح والأسمدة التي لها أسعار عالمية، ما يستدعي أن نعجل بخطط الوحدة الاقتصادية وإزالة القيود، كما وعد القادة في ختام كل قمة، فالتوجه نحو الاقتصاد والحياة والتمتع بها هو أحد مقاصد الشعوب العربية في زمن ما بعد الربيع العربي.

ربما لو ساعدنا مصر في أن تبدأ بالاقتصاد قبل السياسة، لما دخلت في هذه الأزمة السياسية الخانقة التي لا تتوقف إلا لتبدأ في الليلة التالية. تظاهرات عبثية وتبادل اتهامات، الكل يضرب الكل، والكل يسحل الكل، حتى انهارت كل القيم التي ثار من أجلها الإنسان المصري وأهمها «الكرامة»، فعندما تنتهك كرامة خصمك سيفعل الأمر ذاته بكرامتك.

بدأنا نشهد في سورية ولما تنتصر الثورة بعد، تبادل الاتهامات وتصفية الحسابات، بدأ الإعلام يستدعي من مصر أدوات الخصام الذي يفرق، فكثر الحديث أخيراً عن ضرورة منع «أخونة» الثورة السورية. لننتظر حتى تنتصر، ثم افعلوا ما بدا لكم بـ «الإخوان»!

هل ثمة ما يدعو للتفاؤل؟ نعم… حين تصبح قضيتا «الأسمنت والقمح» في أعلى أولويات السياسي العربي.

المصدر: صحيفة الحياة