عائشة سلطان
عائشة سلطان
مؤسسة ومدير ة دار ورق للنشر في دبي وكاتبة عمود صحفي يومي بجريدة البيان

الأعشاب الجافة

آراء

يخيل لبعضنا وهو يتابع الأحداث البطيئة، التي تقارب حد الملل أحياناً أن بإمكان أي منا أن يكتب شيئاً كهذا الذي يدور في أحداث الفيلم التركي «عن الأعشاب الجافة» والقائم على يوميات بسيطة لمعلمي مدرسة وحوارات مستمرة بينهم تتطور بتطور أحداث الفيلم لكنها لا تنقطع.

فكرة أن نقرأ رواية بسيطة أو نشاهد فيلماً يرتكز في أساسه على حكاية أو حكايات عادية، فتساورك فكرة السهولة الساذجة التي تصور لك أنه بإمكان أي أحد أن يكتب شيئاً شبيهاً بهذا الذي يراه، فكرة بقدر ما تنم عن استهانة بالسينما وصناعة الفيلم الجيد، إلا أنها تدل في الوقت نفسه على نجاح صناع الفيلم في اختراق عقل وقلب المشاهد، وتجسير المسافة بين المعاني الفلسفية العميقة وبين المشاهد عبر الحوارات العادية.

إن تكرر هؤلاء المعلمين ضمن مشاهد الحوارات الطويلة إشارة واضحة إلى خطورة دور الفرد في التغيير، انطلاقاً من المدرسة، وباستخدام الفن والمواجهة وعدم الاستسلام، وإن وجود حرس الأنظمة الذين يصرون على تطبيق النظام كما يكرر المشرف في المدرسة إشارة كذلك على دور حراس المنظومة في التضحية بأي شيء لأجل الإبقاء على الوضع كما هو عليه حماية لمصالحهم.

إن مشهد الشتاء المخيم، والثلج الذي يلف كل شيء، الصعوبة التي يتحرك فيها المعلمون، انقسام المجتمع إلى حماة للعادات وآخرين يدفعون ثمن الإصلاح، العرج الذي تعاني منه المعلمة يسارية التوجه… كلها إشارات لا تخفى على المشاهد الفطن من حيث علاقتها بواقع المجتمع التركي، إن السينما الذكية ليست سرداً أفقياً حكائياً مباشراً وساذجاً، لكن اللجوء للسرد والحوار الرتيب ليس سوى محاكاة واقع بهدف نقضه من داخله.

يقدم فيلم «عن الأعشاب الجافة» حكاية بسيطة تتعقد تدريجياً، انطلاقاً من فعل درامي يضع شخصياته في حوارات ثنائية، إذ تظهر المعاني الوجودية لحياتهم وأفعالهم في مساحات جغرافية واسعة وأحياناً غريبة، مثل الحقول والثلوج، التي تبرز جمالاً درامياً، في مدينة أرضروم بشرق الأناضول، وتتنقل شخصيات الفيلم في علاقتها مع المكان النائي، مع التركيز على تطلعاتها وهواجسها تجاه الحاضر والمستقبل.

في النهاية وبعد أن يذوب الجليد، ويظهر العشب لن يكون سوى عشب جاف لا محالة!.

المصدر: البيان