لابد أن تكون الــ (أنا) عندك أكثر شعرية، ولكن غصت في الشاعرية، أصبحت أكثر شبهاً بالحب، وأبعد عن العقل. في قاع الشاعرية يختفي كل الوضوح، ويصبح كل شيء أصيلاً، يصبح كل شيء بالغ الغموض، وتصبح أنت المميز. نحن في الوجود قصيدة نحن الشعر المكلل، بقافية الجمال، نحن الجمال، المجلل بأجمة الزهور المدلل بتغريد الطيور. نحن في الوجود أحلام بأجنحة النجمة، وشفافية الغيمة، نكون خيوط الشمس مدلاة، على جبين الحياة، نكون أنسجة الحرير تهفهف على وجنات تواصلنا مع الآخر.
الآخر هو ضفة النهر التي تسبح إليها أرواحنا، هو هناك، وهو هنا، هو في عمق الخليقة يضاء بمحبتنا والشعاع هو هذا الحب، عندما يصبح الآخر أولاً نكون قد أنجزنا مشروع التلاحم، يكون الانسجام هو الوصول إلى المقلة، والقبلة، لحن الفرح الذي يذهب السغب ويعيد للكون تكامله، ويعيد لنا تداخلنا مع الوجود.. لو تساءلنا ما سر النبتة التي لم تتفتح إلا بعد أن يدنو منها الماء، لتصير شجرة وارفة الظل؟ ومن الماء خلق الله كل شيء حي، من الماء تخرج البذرة، من باطن الأرض لتحيي الوجود، وتقول للناس إن للعذوبة طعم الحياة وأن الحياة هي الأصل، والموت حق طارئ، الذين يعشقون الحياة هم الأوفياء، لأن الله خلق الناس كي ينجزوا مشروع الحب، وليطردوا الشيطان من جنتها، ولو أن وردة ذبلت في بستان فاعلم أيها الإنسان أن هناك حبة رمل لم تشف بعد من الحقد، وأن ريحاً ما حملت الحق من جهة واختفت في معطف المجهول.
يقول المسيح عليه السلام، الحقيقة تحرك ولكن كيف تصل إلى الحقيقة؟ هي الإدراك وما الإدراك إلا تفريغ عقلك من الرواسب والأيديولوجيا لتصبح فارغاً، وعندما لا يصبح على مرآتك ذرة من الغبار تستطيع أن ترى وجهك الحقيقي، وجهك الحقيقي هو الحقيقة. أنت في الحقيقة، فأنت في الظل ترى نفسك، كما ترى الآخر تحت شعاع الشمس مثل أجنحة الطير لامعة، لا تغشاها غاشية. أنت والحقيقة واحد، أنت لا تبحث عن الحقيقة في الخارج وإنما هي فيك ومنك وإليك، القليل من الجهد يزيح الغبار فتبدو أنت موجة تلمع بياضاً، تبدو أنت مهجة بلا خدوش ويبدو الوجود قماشة رقيقة، أنيقة، أنت الذي تلون خيوطها وتزخرف نسيجها، أنت بالحب تطيح بكل أشكال الغربان، ولا يبدو في السماء غير العصافير، ترفع النشيد عالياً، لأجل كون بلا ضجيج وفضاء بلا غبار وإنسان استعاد إنسانيته بحب وتربع على العرش، نظيفاً، عفيفاً يرتع بالسندس والإستبرق.
المصدر: الاتحاد